الشاشة الكلاسيكية

الشاشة الكلاسيكية

  • د :: نور الدين الورفلي

سواء أكانت سينما أو تلفزيون بمحطة واحدة، كانت مبعث على الدفئ، دفئ العائلة وهي تتحلق أمام ذلك التلفاز، منذ أن كان يزود بالكهرباء من خلال البطارية، في أعوام 68، 69 واستمر إلى ال75 تقريباً في المنازل التي بلا كهرباء، أو حتى في أكواخ الصفيح التي كانت تسيج طرابلس من جهاتها الثلاثة.

كان ثمة ميزيريا، فقر، وكان يقابله الدفئ، لستُ هنا لأتبجح وأقول “أيام الزمن الجميل” كما يفعل البعض، لقد كان زمناً قبيحاً كثرت فيه الدموع، دموع النساء اللواتي سُحقت أمانيهن، والصبايا اللواتي لم يلتقين بمن في خيالهن عدا في أحلام يقضتهن، ودموع الأطفال الحفاة في الشتاء القارس… حقيقة أن جيلنا لم يجرب وطئة الفقر كالاجيال التي قبلنا، لكننا وعينا ونحن أطفالاً على بعض المناظر، مناظر الحزن والفرح معاً، ومناظر الدفئ، دفئ العائلة وهي تتحلق أمام شاشة واحدة، أو حين نخرج للسينما رفقة اخوتنا الذين يكبروننا سناً، وكانت قاعات السينما في طرابلس حكاية أخرى، هي من الروعة بحيث تخرس كلماتنا، كنا نتلذذ بكل لحظة، من خروج ماجيستي أو هاركولي، إلى دخول تشارلس برونسون بوجهه المحبب الذي يملأ الكادر في لقطة كلوز آب شوت، كنا في سن الخامسة وفي السادسة، وحتى سن الثالثة عشرة، مولعين بالسينما، نعود للبيت ونحلم بجريتا غاربو أو كلاوديا كاردينالي، وفي الليل نتحلق أمام مسلسل درين مازن هلال أو هكذا كان اسمه لا أتذكر، وفي السهرة شريط سينمائي طويل، أمريكي، فرنسي، إيطالي، الخ، ثم نهجع تماماً حين يأتي موعد “بيت صغير في البراري”…، … وفي الشتاء كنا نتلذذ بصوت المطر، وطقطقة الجمر في الكانون، وأنغام البوطويل الصادرة برقة وخفوت من قلوب أمهاتنا وجداتنا الطاهرات، وهن يتحلقن لصناعة أي شيء، أو للعجين، أو لبرم الكسكس، بمناسبة أو بدونها، طوال النهار، وطوال الليل كان ثمة ما يمكنه أن يملأ أبصارنا وآذاننا بالحكايات، سواء عبر اللسان، أو عبر الصورة المتحركة، عبر تواصل مباشر أو عبر شاشة فضية، …،

طوت الأيام نفسها على نسماتها الحارة والباردة، وابتعدت عن بعضها شيئاً فشيئاً، ببطئ أو بسرعة مذهلة، ليس هذا المهم، المهم أننا هنا الآن، لعل بعضنا من عاشقي أماكنهم التي قضوا فيها طفولتهم ولم يترحلوا منها باقون فيها يستنشقون عطر اماهاتهم، ولعل بعضنا الآخر تركوا الأمكنة وعاشوا الأزمنة وحدها، نحن هنا، في زمن ما بدأ ينفلت من بين أيدينا، ليس مأساتنا في انفلاته، ولكن في تقعره منذ ما يربو على العقد من الزمان، ترى كيف تغير مذاق الأيام، ولماذا الملح لم يعد ملحاً، رغم أنه كذلك وبذات المذاق الكيماوي، ولا السكر في حلوى أماهاتنا زمان، هو ذات السكر في حلويات المحلات اليوم، ولا حتى حلويات بيوتنا اليوم، يا الله كم تغربنا رغم الأماكن ذاتها، وكم خلخلتنا الهموم وطقوسها، نخرج مكممين عن الهواء وعن الكلام، وقبل حلول الليل يلفنا الظلام، في ذواتنا وفي ابتساماتنا المعلبة، وفي أمهات أفكارنا، يا الله ترفق بنا، نخطئ ونصيب، لكننا نعشق، وفي العشق تزدان أفئدتنا رغم كل شيء. ترفق بما نعشق من حروف مجتمعة تقرأ من الجهتين.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :