عاشور صالح عبدالعزيز
المشهد الأول:
إن المتابع للواقع المؤلم الذي يعيشه التعليم الجامعي في بلادنا حتماً يدرك مدى السوء الذي وصل إليه حال الجامعات وكامل المنظومة التعليمية، ومدى المرارة التي يشعر بها ويعيشها من شاءت لهم الأقدار أن يكونوا جزءًا من ذلك الواقع المزري والتعيس. ولاشك أن ذلك الواقع أدى إلى شبه شلل تام في حركة أوصال الجامعات والحركة الفكرية والبحثية فيها وآخر ما تبقى من رمق التعليم والتعلم من محاضرات ونشاطات عملية يتيمة هنا وهناك.
تشريح وتحليل واقع التعليم الجامعي يحتاج إلى صفحات وصفحات لوضع اليد على الجرح، ولكن ليس هذا المكان والمقام لذلك. التركيز في هذه السطور القليلة موقف المجتمع من حراك أعضاء هيئة التدريس من تلك الأوضاع وردّة فعل المجتمع الليبي تجاهها. احتجاجات أعضاء هيئة التدريس لم تكن جديدة ولا وليدة اللحظة، بل كانت تحدث وتتجدد كل عام في إحدى الجامعات إلى أن استقر الجميع على الدخول في اعتصام عام مفتوح العام الماضي.
ولا عجب في قوة الهجوم العنيف الذي شنته فئة من المجتمع الليبي على أعضاء هيئة التدريس الجامعي، فنحن أولاً وأخيراً مجتمعات عاطفية ردود أفعالنا غالباً ما تتصف بالعاطفة الجامحة بدلاً من المنطق والعقل وفهم الأسباب والمآلات. في حالة الجامعات الليبية المزرية وحال أعضاء هيئة التدريس بها الذي هو جزء لا يتجزأ من تلك الحالة المأساوية للجامعات وحالة اليأس والتململ والاستياء في المجتمع الأكاديمي لها أسباب مركبة ومعقدة ومتجذرة. المواطن العادي الذي همه الوحيد رؤية أبنائه وبناته يذهبون ويرجعون من الجامعة قد لا يهمه وقد يكون لم يفكر أصلاً في يوم من الأيام في حال الأستاذ الذي أفنى عمراً بين الكتب والأبحاث والتدريس في الغربة وفي الوطن. قد لا يكون ذلك المواطن فكّر في أجر ذلك الأستاذ المغلوب على أمره الزهيد مقارنة بنظرائه في كل جامعات الدنيا. ربما لم يدر في خلد المواطن كم من السنين يفنيها الأستاذ الجامعي بين إقفال ملف الإيفاد، والتعيين ومباشرة العمل وإتمام الإجراءات المالية طويلة الحبال والمعقدة بين مؤسسات الدولة المتنافرة المتنازعة فيما بينها. قد لا يخطر على بال ذلك المواطن والذي في الأغلب حاله حال الأستاذ الجامعي، كم من السنوات ينتظر الأستاذ ليفرح بتلك الدراهم المعدودة ويكون فيها من الزاهدين؟ وكم من السنين يصل إلى استلام المرتب كاملاً ؟ وربما لم يفكر صديقنا المواطن الذي لا يمل ولا يكل من الشكوى والتذمر من أحواله المضنية وينسى أو يتناسى الشروط التي يجب أن يوقع عليها الأستاذ الجامعي ليترقى ويرفع اسم الجامعة ويزيد من نقاطها في محركات البحث الأكاديمية ولا يدفع له فلساً واحداً للقيام بتلك البحوث ولو كان زهيداً بقدر الاشتراك في شبكة الإنترنت ليبحث ويسجل أبحاثه على الشبكة العنكبوتية لتفرح الجامعة بعدها وتحتفل بإنجازاتها. قد لا يعرف ذلك المواطن المستاء كم العمل الذي على عاتق عضو هيئة التدريس والذي لا يتوقف فقط في قاعات المحاضرات والإشراف الأكاديمي، بل يتجاوزه لساعات طويلة في التحضير والتصحيح والأعمال الأخرى التي يكلف بها من قبل المؤسسة، كما ينص عقد التوظيف.
وقد يغفل المواطن عن حقيقة أن أعضاء هيئة التدريس الجامعي هم مواطنون ليبيون في نهاية المطاف ويقع على عاتقهم ما يقع على عاتق كل الليبيين من أعباء الحياة اليومية من دفع أجور مدارس أبنائهم، وفواتير الكهرباء، وإعالة أسرهم، والوقوف في طوابير البنزين وتأمين مستقبل أبنائهم وغيرها من متطلبات الحياة اليومية.
في الجانب المقابل للمواطن الحق في أن يقلق على مستقبل أبنائه وعمرهم الضائع بين صراعات أعضاء هيئة التدريس والحكومات الناكثة للوعود والعهود. للمواطن الحق أن ينتقد أساتذة الجامعات لأنه لا يرى أمامه في مشكلة إيقاف الدراسة مثلاً إلى الأستاذ الذي توقف عن المحاضرات، ولن يرى ما يدور في كواليس مفاوضات انتزاع الحقوق والاحتجاجات والاعتصامات التي ما فتئت أن تبدأ وتتوقف طوال السنوات الماضية فقط لحفظ حقوق الطلاب. فحقوق الطلبة كانت ولا تزال دائماً السيف المسلط على رقاب أساتذة الجامعات، إضافة إلى التهم المعلبة بالجشع والأنانية وعدم تحمل المسؤولية وتضييع مستقبل الطلبة من أجل المال، ولكن ما قد يغفل عنه الشخص البعيد عن المجال الأكاديمي أن كل تلك الاتهامات ماهي إلا غيض من فيض من المطالبات.
أيضاً على عضو هيئة التدريس أن ينتج ويساهم في تطور ورفعة المجتمع وتكون له إسهامات معتبرة في مجاله وأن ينعكس كل ذلك على المجتمع ولكن بالمقابل يجب أن يشعر الأستاذ بالراحة النفسية والوظيفية ليقوم بالأبحاث والتدريس والكتابة والإشراف والمشاركة في المؤتمرات والندوات والبرامج التلفزيونية والإذاعية المسموعة. من المعيب والمخجل أن يتسول أستاذ جامعي حقوقه من الحكومة، ولا يشعر بالتقدير من السلطات التي من واجبها أن تمنحه ذلك التقدير وتضفي عليه الهيبة التي يستحقها.
كل ذلك هو أساساً مسؤولية الحكومة والجهات التشريعية والرقابية في الدولة، وهذا موضوع المشهد الثاني وكيف خذلت الحكومة كامل منظومة التعليم الجامعي وسقتها بالوعود الهلامية والتسويف الذي في جله لا يغني ولا يسمن من جوع.