كتبت :: جود الفويرس
الفَصْلُ الأوّل: بيزا في ليلةٍ عادية بشكلٍ استثنائيّ، خيّم الهدوء نسبيًا على شوارع بروكلين، احتضن الظّلامُ الفارّينَ من تعبِ النّهارِ المدقع بأجواءٍ متباينة، كانت بعضُ الأزقّةِ خاليةً فيما يغصّ بعضها الآخر بالزُّحام، يصدحُ صوت مواءٍ في الخارج وتنبحُ بعض الكلاب، تتعاقب ظلالُ النّاسِ حول أعمدةِ الإنارة في نظامٍ فيزيائيّ بحث، فيما تجعجع بعض السّيارات بمواطيرها نافثةً دُخانها الرمادِيّ المسموم، في زقاقٍ ضيّق تحديدًا تحتَ عارضةِ كُتبٍ عليها حانة (Get drunk) كان الباب مُوصدًا لوهلةٍ على الشّياطِين وهي تتراقص تكاثفًا مع البشر، منتشين متمايلين كلُحمة واحدة في الضلال على إيقاعِ فرقةِ هنرِي . فُتح البابُ -والذِي أخذ الصّدأ من جسده المتهاوِي كلّ مأخذ- بقوّة مُصدرًا صريرًا حادًّا حين كان جورج صاحب الحانة يركل بحذائهِ القذر ما تبقى من حسنٍ للخارج، يسخرُ منهُ دائمًا كلّما صبّ له الشّراب، يناديه بالمُسلم، ويرحبُّ به في جهنّم بحبّة زيتونٍ إضافية، يزدرد حسنَ الخمرِ بالدّين؛ لأنّه صديق لهنري ظانًّا بأنّه طارد للذكريات، يقول بأنّ الخمر مخدّر يُنسيه حتّى نفسه، وكان هو بحاجةٍ ماسةٍ لينسى نفسهُ كلَّ ليلة. تحدّثَ صاحبُ الخمّارةِ الأمريكيّ: “اسمعني أيّها المسلم لا تعد إلى هنا مرّةً أخرى أبدًا وإلا كَسرتُ عنقك، هذه الكدمات المضجج بها وجهكَ ليستْ إلاّ البداية، كما أنّني أوَدُّ قيمة ما تجرعته بالديون لعامٍ كاملٍ غدًا في يدِي وإلاّ شكوتك للشرطة، مفهوم؟”، أنهى الأمريكيُّ حديثَهُ دون أن ينتظرَ ردًّا على سؤاله بأن يبصق على حسن بكثافة ثمّ قال له وهو يصفع الباب: “اللعنة على المُسلمين”. لم يأبه حسن بالشّتائمِ التي تعرّضَ لها، ولا بالطريقة التي طُرد بها، كان في الدنيا كالغائب عنها، هائمًا طوال الوقت، تحسّس برودةٍ الزّقاقَ الذي رُمي عليه؛ فقام يلملم أعضاءَه بشكلٍ يسمحُ له بمشيٍ أعرج، استحضر كرامتهُ في ذهنهِ وسار بها يفكّر فيما فعله قديمًا، جالت فِي خاطِرهِ روحٌ في بُعدٍ آخر تومض لوهلة في فِكره، ثمّ تنغز ذكراها قلبَه كالإبر، إنّه ينزفُ دمًا خفيًّا يشعر بتسرّبه وفقدانه، قال ذات يوم إلى اللاأحد: “إنّني مُصابٌ بجروح بالغة في ضميرِي”، كان جسر بروكلين تلك الليلة يشهد معجزةَ هذا الفتى البائس حين قال حسن محدّثا نفسه: “لا طاقة لِي بذل العيش هنا، حتمًا عليَّ أن أعودَ إلى الوطن، إنّ لعنةَ سلمى منذُ اليومِ الأوّل تلاحقني”.
في استوديو صغير يحملُ رقمَ 304 في إحدى شوارع بروكلين، كان بيزا يسكُن بالإيجار مع هنري عازفِ الجيتار وسائق الشاحنات، كان هِنرِي ضخما، أحمرا بما يكفي حتّى يشبه دجاجةً مسلوقة، وكان يصدر خريرًا يشبهُ تدفّق الماء كلّما تنفّس، وبحقّ الصّداقة التي جمعت بينهم والتي لا تتعدّى “Good morning, Good night”، توسّط لَهُ عند جورج بأنْ يسكر كما يشاء، وأهدى هنري لحسن وشمه الأول، كان بيزا ضائعا وقتها؛ فصبغَ على جلدِ ذراعهِ بالأخضر كلمة “Peace”، وكان يتمنّى أن يتحسّسها في قلبِه. كان يقطن في استوديو مكوّن من غرفتين صغيرتين، وحمّام شبّتْ فيه نارٌ ذات مرّة وبقِيَ الطّلاءُ مرقّطًا بالبرص على حاله، ومطبخٍ صغيرٍ لم يَطْهُ أحدهم فيه لُقمةً واحدة، كان بيزا ينظر إلى وجهه في ميني “mini” مرآة، والتي كانت كبيرة أوّل عهدها؛ لكنّها أخذت تتقلّص شيئًا فشيئًا كلّما غضب أحدهم ورماها بغرضٍ صلب، كان ذنبها الوحيد أنّها تعكسهم على حقيقتهم. تفحّص بيزا صفحةَ وجههِ المجعّدة، وتقزّزَ رغم وسامته المتوسّطة، له شعرٌ أملس، عينان سوداوان، ذقنٌ كثّ، وحاجبان تحسده النّساء الأمريكيّات بشدّة على امتلاكهما، له أنفٌ مستقيم حين كان حَسَنا، ثمّ مالَ في إحدى النّزالات بضربةٍ مدوية من جلمودٍ مخمور، إنّه كالبناء الضّخم المائل الآن؛ بيزا كما صرّحت سلمى ذات يوم. جلسَ على أغلى ممتلكاتهم، كنبة تتوسّط الشّاغر الوحيد في مكانهم الضّيق، تبدو ككرشٍ بفتوقٍ عديدة، جلدها القديم قد أباده الزّمن حتّى نتأ إسفنجه الأصفر للخارج، وصوتها مزعجٌ ما إن تنزلقَ عليها حتّى تُطربك بصوتِ الضّراط، كان حسن يقول دائمًا: “حبًا فِي الله إنّها جماد ولا تُصدِر رائحة!”. شرعَ يقرأُ على ضوءٍ خافتٍ رسالةً تلقّاها منها منذ أربعةِ أعوام، لم تكن كلماتها ذات حضورٍ قويّ في البداية، كان مشدوهًا بالمدينة وحياته الجديدة وبالشّقراوات؛ ولكن ومنذ مدّة تجثم هذه الكلمات على صدرهِ، لا ينفكُّ يقرؤها بصوتها الغاضب: “حسبنا الله ونعم الوكيل”، إنّه كالنّبض في وجودِ هذه الكلمات الآن لا يحضر إلاّ فيها ولا يَسمعُ غيرها مُطلقًا، قالت
في الرّسالة: “على غيرِ المتوقّع يظلمكَ أقرب النّاس لك، وكُنت أنتَ أقرب النّاس لِي، في حين جاءني الكثيرون كثقة فُضّت في عروش صدقها، كُنت يا حسن أعتبرك عهدًا، اعتبرتك ميثاقًا لا زيفَ في بنوده أبدًا، ولا خوفَ يُرى أو رجفةً تُلحظ في أطراف عاقديه، ليتك كنتَ يا عزيزِي بيانًا مرفقًا بختمِ الحاكم، ليتك كُنتَ شجاعا، ليتك كُنتَ ثباتًا يُمحق ما دُونه من الوهن، ليتكَ لم تكُن خيانة، أتبنِي نفسكَ على خرابِي يا ظالم؟، مهما فعلت لن تكونَ إلاّ مائلًا يا حسن، لن يوفّقك الله، لن تكون إلاّ كمبنى بيزا الذي أجرينا عليه بحثنا مع الأستاذ خالد، ستكون معجزة الله في الفساد، أنا سلمى عبد الغنِي أحكمُ عليك بعذابِ الضّمير الأبديّ، أنا سلمى عبد الغني أتحسّب عليك بغضب حسبنا الله ونعم الوكيل.”. قال والدّموع تترقرق فِي عينيه: “تبًّا كم كانتْ تعشقُ الدراما والأفلام القديمة، ماهذا؟، أنا سلمى عبد الغني أحكم عليك بـ ..؛ لكنّها ذات شخصيّةٍ قياديةٍ فعلًا، سطو حكمها جبّار؛ فهو للآن لم يحِد عن قدرِي قيد أنملة.