قصة قصيرة :: المهدي جاتو
تعاليم الجدة ، والركض خلف الجديان الشقية ، حافية القدمين تقفز على بساط من الحصى المحروق ، كحبات عنبر ، تحاول أن توجه الجديان إلى المخيم .. الجدة تنظر بتقاطيع وجهٍ جاف كجفاف هذه الأودية الشاسعة الممتدة كامتداد بحر السراب الذي تراه تحت السحاب ؛ تسأل كثيراً ! أحياناً تضن إنها بلهاء ، وأحياناً أخرى تضن أنها عرابة الحكمة ، وحكيمة الحكمة .
جديان شقية ، وظبية غضة بريئة تسارع الخُطى بالعودة قبل أن يحل الغسق ويلتهب الشفق ، فتبدوا هي وجديانها تقفز كأنها تصعد درجاً عليه بساط أحمر ، أمام مدفأة يختبئ من عاصفة ثلجية قارصة ، في بيت منعزل على قمة من قمم جبال الألب البيضاء في (زيورخ) يرتشف آخر رشفة من فنجان القهوة الساخنة الذي أمامه ؛ يضع الكتاب على المنضدة التي بالقرب منه ، يلقي برأسه إلى الخلف في استرخاء كامل .. حبات الثلج في الخارج تتساقط على السقف محدثة إيقاعات متتابعة وأحيان متداخلة ، من حين لآخر يسمع فرقعة قوية ، كأنها صوت إطلاقة مدفع .. يعلم إنه ذلك هو صوت الرعد .
(( كارولين وآندريه )) ذهبوا إلى العاصمة (( جنيف )) لن تعود كارولين قبل أن يدخل آندريه إلى المدرسة الداخلية ، وتمر لتزور والدتها .قد تقضي معها يومان أو ثلاثة .
العاصفة في الخارج شديدة ، ينهض ، يتحرك في الغرفة ، يتجه إلى النافذة ينظر بعد أن يزيح جزء من الستارة إلى الخارج ، بالقرب من المدخل الرئيسي من غرفة المنزل .. عمود به مصباح مضاء ، رغم رداءة الجو ، بدأ يدقق النظر ، يفري عينيه ، يبدو إنه شاهد شيئاً ! ما هذه التي تتقافز ؟ ، لا أظن إنها جراء الخنازير ، إنها ليست جراء ! إنها تتقافز برشاقة كأنها تؤدي لوحة راقصة على الجليد ، إنها هناك عند الباب ، حافية القدمين شعر متهدل ، عينان واسعتان سوداوان ، ووجه قمري مدّور .. في يدها زهرة أقحوان ، واقفة تلح على فتح الباب ، فالجدة تنتظر الجديان وهي ما تعودن على موانع بينها وبين الجديان .
الثلج لا يزال يتساقط ، أشجار الحديقة بيضاء ، الجديان تتقافز ، وهو متسّمر إلى النافذة ، ينقسم بين الوعي و اللا وعي .
في ساحة اللا وعي يترك النافذة ، ويهرول إلى الباب الخارجي ، عاصفة رملية ، ورياح مشبعة بهبوب القبلي الساخن ، قدماه تغوص في الرمل ، فحيح الأفاعي لا يبدوا بعيداً .. الجديان لا زالت تقفز ، ترقص .
يحاول الوصول إلى باب الحديقة ، الذي بدا وكأنه باب حصن في الصحراء . لم يعد يرى الأشجار . يكابد ، يجاهد ، من أجل الوصول إلى الباب ، وكما أقترب ازدادت الحرارة . بدا يتخلى عن بعض ملابسه ، يصل ؛ لم يبق بينه وبينها إلا الباب . ينظر لها ؛ لم تقع عيناه على مثلها من قبل ؛ قطعاً لن تكون سوى لوحة رسمها فنان عبقري .
أستجمع كل ما لديه من قوة ، وفتح الباب ، وانحنى أمامها ، داعياً إياها أن تدخل إلى بيته ، لتسبغ عليه رداءاً من القدسية إنها لا تريد شيئاً سوى الجديان ، فالجدة تنتظر . تقدمت إلى ذلك الممر الذي يوصل إلى الدرج الذي يقود إلى مدخل البيت . تقدمت ، بينما الجديان مصطفة على اليمين وعلى الشمال ، وهو أمامها منحنياً . تقدمت حتى صعدت آخر الدرج .
يدخل إلى داخل البيت ، ليجد الوعي مستيقظاً . البرد قارص ، والثلج يكسوا الشجر ، والأرض ، والحجر ، يترك النافذة ، يذهب إلى حيث المدفأة ، يتدثر بلحاف ، مسترخياً لبعض الوقت .. الجليد ، الثلج ، القيظ ، القيظ في الصحراء ، كأنه تذكر شيئاً مهماً ينتفض واقفاً ، يتجه إلى الباب مسرعاً ؛ لقد كانت تسير على بساط أحمر .. يفتح الباب ينظر إلى الدرج والممر ، لا أثر للبساط .. كل شيء أبيض ! أين الرمل ، وزهرة الأقحوان ؟! لا أثر للجديان ! .
يقترب من الباب الخارجي للحديقة ، لا أثر ! يقف تحت المصباح ، الثلج يتساقط بشدة ، وهو واقف تجمد .. تخشب .. أصبح جزءاً من سياج ممر ، أحَرّ على أن يكسوهُ ببساطٍ أحمر .
إهداء من الكاتب المسرحي/ حمادي علي المدَّربي
2017