حرية سليمان
تسألني بناتي عن سر طاقتي المتحفزة للفعل دوما واستمتاعي حتى بالصمت.. يصفنني ب “سوبر ماما” التي لا تكل ولا تمل على عكس الملل الذي يكسو ساعاتهن والفراغ الذي يحيط بأوقاتهن .
الأمر الذي يهزمني حزنا .. فبرغم ما يمتلكنه من رفاهية وما توفره لهن التكنولوجيا من أمور تلتهم الوقت لا أتذكر وقتا لم يشتكين فيه.. على عكسي تماما.
طفولتي الناضجة لم تتح لي اقتناء العرائس كما فعلن .. لم تكن الدمى حلما يداعب خيالي وكنت أستغرب كيف كانت المطلب الوحيد لهن بسبب،وبدون سبب.
بطفولتي كنت أشتري العابا غير العرائس بدافع الفضول.. رجوت أمي والتي انتقدت بدورها كم الألعاب لدى بناتي والتي لو تذكرت طفولتها البعيدة في القرية قالت”كنا نصنع الألعاب من الأقمشة ونحشوها قطنا..وكنا نصنع بعضها من الطمي ونتركه ليجف ومن العصي أيضا ومن غطيان”الكازوزه”.. ومعظم الألعاب كانت “تخيليه” أو تعتمد على الأنشطة البدنية كالحجل ونط الحبل. المهم أني طلبت منها أن تشتري لي آلة “كمان” من محل العاب شهير وبعد إلحاح فعلت.
شعرت دفئا غير عادي ويداي ممسكتان بهيكلها الخشبي بانحناءاته الانسيابية، بعدها اشتريت بيانو معدني أزرق صغير بحجم لا يتجاوز الثلاثين سنتيمترا.
تخيلت أنني ساحرة لها القدرة على إخراج الأرنب من القبعة والحمامة من أذن الثعلب.. تحديت نفسي تدربت على مقطوعة موسيقية صغيرة بمدرستي الإبتدائية على آلة الاكسليفون، كانت موسيقى لنشيد وطني يقول”والله زمان يا سلاحي.. اشتقت لك في كفاحي”، كتبه صلاح جاهين وغنته أم كلثوم.
شيء ما كان يدفعني للاكتشاف والبحث.. ربما تلك التساؤلات الوجودية التي يفاجئنا بها الصغار.. ليست على غرار كيف بدأ الخلق؟! ومن أين أتينا؟!. لكن عن الطاقات المخبوءة التي تدفعك دوما للفعل.. الرغبة في اكتشاف الذات.. أن تصنع بصمتك الخاصة..هويتك.
في رحلة البحث تلك ستطرق كل الأبواب.. ستصيبك الدهشة من ترددك المستمر! ليلا ستعتزم الغناء ..صباحا تغرم بالقطط.
اليوم للعصافير الأسيوية والببغاوات الناطقة، والغد للطوابع والعملات النادرة. لن تقف عند شيء واحد.. بل ستأسرك أشياء عدة..مارست الرسم بمرحلة ما.. شغفت بخطوط بيكار وقوة نساء جاذبية سري والتيمة الشعبية بلوحات عبد الهادي الجزار .. كنت صغيرة لكن سحرتني تعبيرية يوسف فرنسيس وحاكيتها.. وأغوتني نجوم وحقول وألوان فان جوخ..أدهشتني أفكار بيكاسو وكيف شكل له الوقت هاجسا.
على مدار العمر وسنة تلو أخرى أكبر وينمو عقلي لأدرك أن المتعة لا تكمن في الوصول، وإنما في الطريق.. بكل حواريه وأزقته.. بشوارعه الضيقة والواسعة.. في المنعطفات.. منحدرات كانت أو قمم.. المتعة تكمن في التنقل .. ليس فقط من مكان لآخر .. وإنما بين فكرة وأخرى ورغبة وأخرى..في التأمل وإدراك الفروق الجوهرية بين الأشياء..لكن متعتي الكبرى وجدتها حقيقة في القراءة.. كنت ألهث خلفها كسجين يطارد حريته.. منحتني القراءة ميزة الهروب من أكبر وأعقد مخاوفي .. ميزة التغلب على ألد اعدائي .
ميزة الانتصار على القهر الذكوري، وعلى سطوة وهيمنة الكبار.
قوائم الممنوعات اللامنطقية والمصادرة على الخيارات مهما كانت تافهة.
كنت أطارد الكتب بمعارض الكتب وبالمكتبات.
كان الأمر أشبه بالسحر أو كمن أسرتها تعويذة سافرت مع الحواديت .. وبنيت مدنا من خيالي..حفظت المشاهد الكلاسيكية وانطبعت بالذاكرة.
كنت جميلة الوحش، والسيندريلا التي خالفت التعليمات.. كنت عقلة الأصبع، وبينوكيو الذي هجر الكذب إنقاذا لأنفه!
نمت وقد أفسدت نومي حبة فول اختبأت بحشوة الفراش.. استيقظت وقد غطتني الثلوج وقد استهلكت كل أعواد ثقابي.
صادقت روبن هود وجليفر.. حلقت بعيدا بعيدا كالحمامة التي طارت كالسهم.
و بعد مضي العمر أدركت أني امتلكت ما لم تحصل عليه بناتي.
بساطة الحياة وقتها مكنتني من أن أخلق عالما من الخيال يسكن أحلامي ويستوطن كتبي ويشكل لي نوافذ للهروب لكن الشيء الوحيد الثابت أنك بطل حكايتك.. والملهم في قصتك ودائما وأبدا سيظل لك الدور الأساسي في تلوين رمادية واقعك.
