بقلم : يوسف أشرف علي/ مصر
دس زميله عقب السيجارة بعصبية ، ثم سحب واحدة أخرى من العلبة الممتلئة بعد أن دقها عدة دقات ، لم تكن تلك بأول سيجارة إلا أن صبري ترك الأوراق الموكل بتصويرها ، وأخذ يحدق بكومة الأعقاب التي يعلوها الدخان ،،،
ـ ” روح نفض الطفاية ….واوعى تطلع حاجة لبرة لا نانا تزعل ”
ويذهب ليخلي المطفأة فيعود ليجد سيجارة أخرى قد وضعت بالمبسم ثم وجدت طريقها إلى فم العجوز الممتلىء ، وهو يتكىء على كتابه بشغف ، بجانبه شريط أقراص تحت اللسان ، البخاخة السوداء وإلى جانب ذلك الدواء كريه الرائحة الذي يثير في نفسه رغبة في القيء.
ـ ” عادة وذهبت أيامها….. كانت موضة ،،، ولاد الناس والمثقفين يشربوا سجاير ”
فالصبي الذي كلما نزل بدراجته إلى الشارع يجد عطية السباك البصباص سيء السمعة يدخن بشراهة ، كان ينقض على جدته المسكينة بالأسئلة التي لا يستطيع حتى بإجاباتها عقله البسيط أن يترجم ذلك التوازي الشاذ.
انتابته الهيستيريا من سن الرابعة عشر ،وكلما أتت جلسة السنوية العائلية وأشعل أحدهم سيجارة سهوا لاحقته نظرات اللوم والتقريع ، ليلقيها من البلكون معتذرا عن هذا الخطأ غير المقصود .
و بذل الطبيب النفسي والوالدان جهدا مضنيا كي يقنعوه أن “النيكوتين ” لم يكن السبب في وفاة جده .
ـ ” يبني ده سرطان في الكبد ……. وراثي يعني يمكن أنا كمان أرقد بيه …. أمال أنا بحلل دوري ليه يا صبري يا حبيبي ”
كلما وقعت عينه على ساعة الغرفة المتوقفة عقاربها على الثالثة والنصف ، انتابته القشعريرة وأخذ جسده بالكامل يتصبب عرقا ، وتراءى له العجوز بشعره الأبيض الكثيف ، والرغاوى تخرج من فمه ، وهيكله العظمي مسجى في هدوء مضطرب ، بعدها يسكن سكونه الأخير وينتهي كل شيء كما بدأ .
تأتي العمة مهرولة وتخبىء المطفأة بهدوء، ثم ما تلبث أن تنهر أبناءها العابثين بصوت عال وسط ضحكاتهم المكتومة ، وهي تضم صبري متمتمة .
تحطم جدار برلين ،،،
يوما ما أتى بالمطفأة وسط الجميع ،و أمسك بسيجارة ثم وضعها بمبسم الجد المعهود ، ووسط صدمتهم أخذ نفسا عميقا ، وأخرج سحابة و أخذ يشكلها حتى استوت على كتلة مبعككة التكوير ، و ارتخت ملامح وجهه و ابتسم ملء فيه ، وأخذ ينتف أجزاء السيجارة السفلية ، وهو يضحك ضحكا هيستيريا ورمادها يتناثر على جوانب المطفأة ليمد أصابعه النحيلة ويرميها بالقاع ، ولم يتوقف سيلان المشاعر الفياضة إلا بصفعة كانت الأولى والأخيرة من أبيه بعدها تبدلت ملامح وجهه وكساها وجوم كئيب ، وتحسس جفنيه ينتظر سقوط الدموع ، ثم انصرف عن الجمع يركض إلى غرفة جده ،
حدق بالساعة وأخذت حدقتي عينيه في الاتساع حتى بلغتا مداهما ، تبعوه ولكن الوالد مد ذراعه مانعا إياهم من إفساد تلك اللوحة السوريالية ،،،،
الماكينة تصفر معلنة الانتهاء ،،،،
لا يذكر أن ضبط نفسه ولو لمرة بسيجارة ،،،،
ـ ” مش حتخلص الورق ، كرومبو مش ناوي يلم الدور وشادد حيله اليومين دول ” .
زم شفتيه ، وهو لا يزال يحدق بالمطفأة ، وبدرت منه حشرجة حادة الموجات ،،،،
ـ ” ايه ؟؟!! ”
انتفض أغلق عينيه ثم فتحهما وأغلقهما لعدة مرات كأنه قد استفاق لتوه من إغفاءة عميقة ، وفي جملة مقتضبة ،،،
ـ ” حيموتوا…… كلهم بالسرطان .