عرفته باحثًا غارقًا في بحار الطّبّ، وكاتبًا مميّزًا يمزج العلم بالأدب وغوّاصًا ماهرًا في التقاط لآلئ الأخبار وصوغها ببراعة في قصص تجذب العيون والأسماع . وعرفته إنسانًا أغنى شخصيّته بالعلم والفكر والدّين والأدب فظهر من خلالها رجلًا قلّ أن تجدّ له مثيلًا ..إنّه الباحث الدكتور محمد فنحي عبد العال الصيدليّ الأديب والكاتب الأريب الذي كان لي معه هذا اللقاء :
1- د. محمد اسمح لنا أن ننطلق في بداية لقائنا من ميناء الطّفولة؟
كيف يمكنك أن تصوّر لنا محمد – الطّفل في بضعة سطور ؟
الطّفولة كانت بالنّسبة لي مرحلة انعزال كامل فلم يكن عندي سوى صداقات محدودة وكان والداي لا يشجعاني على ممارسة أيّ نشاط خارج الدّوام الدّراسيّ و لا يؤيّدان فكرة الخروج للتّنزّه مع الأصدقاء ..فكانت القراءة وحدها هي متنفسي الوحيد للاقتراب من الحياة وملامسة خطوبها وسبر أغوارها..لكنّني مع الوقت اكتشفت أن الحياة ليست ما بالكتب فهي أوسع وأشمل بكثير ودروس الحياة لا تقدّر بثمن ..لقد خرجت للمحيط العمليّ لأوّل مرّة وأنا أظنّ أنّي قادر على مواجهة الحياة بلفائف من كتب فإذا بقسوة الحياة تلقنّني دروسًا جعلتني أكتب أضعاف ما قرأت
.. 2- ما هي الرّوافد التي استقيت منها الأدب في تلك المرحلة ؟من هو الكاتب الذي كان يستهويك ؟ كانت مكتبة المدرسة منطلقي نحو القراءة حيث كان نظام الاستعارة للكتب متاحًا بالإضافة لمشروع مكتبة الأسرة والذي كان منفذًا مهمًّا لي ولجيلي كلّه في اقتناء أمّهات الكتب العربيّة والمترجمة بأسعار زهيدة فكوّنت مكتبة كبيرة من هذه الكتب بما أقتصده من مصروفي ..وكان كاتبي المفضل في البداية الدّكتور طه حسين بأسلوبه السّاحر خاصّة في معالجة القضايا الإسلاميّة. لكن- ومع التّقدّم في السّنّ- أدركت أن سحر بيانه في هذه القضايا كانت خلفه ألغام موقوته
.. 3- متى اكتشفت موهبتك في الكتابة الأدبيّة ؟ كانت البداية لممارسة كتابة القصّة والرّواية في النّادي الأدبي بكليّة الصّيدلة حيث تبادل الآراء والنّقاش المثمر المفيد حول أعمال للزّملاء. 4- لاحظنا في إصدارك الاخير ” حكايات من بحار المعرفة” اهتمامًا ملحوظًا بمرحلة ما بعد الطّفولة. ماذا تعني هذه المرحلة لك؟ ولماذا التّركيز عليها ؟
تزويد النّشء بالعلم والمعرفة والوعي والقدرة على التّأمل والنّقد البنّاء للتٍاريخ مسائل شديدة الأهميّة لخلق جيل قادر على البناء والإسهام في قضايا أمّته .. 5 – نلاحظ اليوم غياب القدوة او المثال الأعلى بالنّسبة للّنشء لذلك تراهم كمن أضاع البوصلة .. يفكرون بالتّميّز ولكنهم لا يعرفون دروبه. فماذا تقول لهؤلاء ؟
غياب القدوة والمثل الذي نعاني منه بدأ حينما غيّبنا الدّين عن حياتنا ومناهجنا التّعليميّة بالمدارس والجامعات وأصبح مادّة هامشيّة فأين أخلاق النّبي (صلى الله عليه وسلم) وسيرته و الحديث عن الخلفاء الرّاشدين والصّحابة من المناهج التّعليميّة ؟ وأين النّدوات الدّينيّة التي كانت تعقد بالمساجد؟
وأين المنصّات الإلكترونيّة التي تحضّ على الأخلاق الحميدة وتوفّر المادة العلميّة والتّعليميّة وتقدّم مساقات بشهادات معتمدة في الأخلاق كحافز للشّباب على الدّراسة والتّحصيل والمعرفة لمَ لا نعود للدّين؟ وأقصد بالدّين كافّة الشّرائع السّماويّة كمنهل للأخلاق وعودة القيم لسلوكيّات النّاس ..ولمَ لا تكون هناك شرطة لمراقبة الأخلاق والتّوجيه باللّين والنّصيحة والمحاسبة إن تفاقمت الأمور وانفلت الحال لقد ناقشت ذلك في كتابي (على مقهى الأربعين )..للأسف الشّديد حينما غابت بوصلة الدّين من حياتنا أصبحنا تائهين بلا قدوة ولا قائد ولا مثل أعلى
.. 6- كيف استطاعت مهنتك (الصّيدلة) أن تترك آثارها على مؤلّفاتك ؟
دراسة علوم الصّيدلة كانت بالنّسبة لي انطلاقة نحو تعلّم أدوات البحث العلميّ والمعارف المختلفة والصّبر والمثابرة على البحث والقدرة على الحكم على القضايا العلميّة ومقارنة الأدلّة وتبسيط المعارف لتكون متاحة ويسيرة للقرّاء جميعًا على اختلاف توجهّاتهم واهتماماتهم وشرائحهم العمريّة
.. 7- نعلم أنّك تعيش بعيدًا عن بلدك الأم. كيف تركَت الغربة تأثيرها على شخصيّتك؟
منحتني الغربة متّسعًا أكثر رحابة للتّأمّل والحكم على الأشياء برويّة وهدوء كما شجّعتني على الكتابة بشكل منتظم وتقديم عدد كبير من المؤلّفات في مجالات شتّى كالرّواية والقصّة القصيرة والأعمال الفكريّة والثّقافيّة والتّاريخيّة والعلميّة والمزج بينها.
كما أن عملي بالجودة الطّبيّة اكسبني الكثير من الخبرة وكشف لي العديد من الثّغرات في المجتمع
.. 8- من يطّلع على إنتاجك يجد مؤلفات فرديّة وأخرى كتبتها مشتركة مع كاتب أو مجموعة مؤلّفين . أيّ تلك التّجارب تعتبرها الأغنى وما هي إيجابيّاتها ؟
الكتب المشتركة أكثر ثراء وغنى فهي سفيرة لمؤلّفيها في بلدانهم وفي بلدان شتّى وهي تمنح قرّاءها الفرصة للاطّلاع على جوانب متعدّدة لموضوع ما، بزوايا بيئيّة مختلفة وثريّة وبتراكيب لغويّة ومفردات فكريّة شتّى وحصيلة معرفيّة متنوّعة. 9- حصدت الكثير من التّقدير والتّكريم في أكثر من مجال .
ترى ماذا أضاف التّكريم على حياتك كمبدع ؟ التّكريم حافز على مواصلة النّجاح والتّقدّم وتقديم كلّ ما هو جديد فهو يعكس اهتمامًا بما يقدّمه الكاتب فيشعر أنّ مخزون فكره يؤتي ثماره ولن يذهب سدى. 10- بعد إصداراتك التي تنوّعت بين الورقيّ والالكترونيّ . أيّهما تفضّل اليوم ؟
أرى المستقبل للكتاب الالكترونيّ بلا شكّ. 11- كيف تنظر الى مستقبل الكتاب الورقيّ . هل تراه في طريقه الى الاندثار أم أنّ انحساره اليوم مرحلة مؤقّتة ؟
لقد تناولت هذا الموضوع بقدر من الاستفاضة في كتابي (على مقهى الأربعين) وملخّص ما تحدّثت عنه أن مزايا الكتاب الالكترونيّ كثيرة مقارنة بالورقيّ فإصداره ونشره وتوزيعه لا يحتاج إلى أكثر من بضع خطوات بسيطة على الانترنت ليصبح متاحًا لشريحة واسعة من القرّاء المهتمّين حول العالم كما أنّ الشّكل الالكترونيّ يحفظ الكتاب من الضياع والتآكل والاندثار والعبث مع مضي الزمن …إنّه صيحة العصر ولابدّ أن نكون مواكبين له .
12-ما هو الموضوع الذي كتبته في كتاب ما وأحسست أنّك غير مقتنع ببعض ما فيه ؟
حينما كتبت عن الأدب الأسلاميّ والوسطيّة الإسلاميّة في كتاب (على هامش التّاريخ والأدب ) فعلى الرّغم من إيماني بالفكرة ودورها في تنمية الأخلاق إلّا أنّي لم اتّفق مع صاحب هذه النّظريّة الدّكتور عبد الحميد إبراهيم في أن جمال الغيطاني يعبر عن هذه المدرسة ففي روايته الشّهيرة (الزّيني بركات) يتحدّث المؤلّف على لسان كبير البصّاصين قائلا: “ألم يكن خاتم المرسلين وسيّد البشر مضطهَدًا من قومه؟
ألم يرمه اليهود بالحجارة من فوق أسوار الطّائف فألهب الهجير باطن قدميه، وسال دمه؟
ألم يحاربوه وتأكل واحدة منهم كبد عمه حمزة نيئة؟ ومن قبل ألم يثقلوا رأس المسيح عليه السّلام بالشّوك، ودقّوا المسامير فى جسده وصلبوه؟”
وهو ما يوضح كميّة الخلط الشّديد لدى المؤلّف في أمور من بديهيّات الإسلام فهل يصلح ليكون معبّرا عن وسطيّته!! فأهل الطّائف المشركين وليس اليهود هم من رموا النّبيّ بالحجارة وهند بنت عتبة التي لاكت كبد حمزة لم تكن يهوديّة بل قرشية ..كما أنّ حادثة صلب المسيح نقطة خلاف جوهريّة بين الدّيانتين الإسلاميّة التي تنفيها والمسيحيّة التي تؤكّدها ولم تكن لتدور على ألسنة المماليك في هذه الأزمنة .
بهذه الإجابة نختم حوارنا معك د. محمد ونبقى على موعد دائم مع إصداراتك المتنوّعة التي تغني بها مكتباتنا الورقيّة والالكترونيّة .