أ / المهدي كاجيجي
إنّ حركة المرور صارت ، منذ عقود طويلة ، من أكبر مشاكل الحكومات والبلديات في مختلف أقطار العالم. فتطوّر وسائل النقل وتزايد عددها ، جعل شوارع المدن ، وحتى القرى ، تضيق بمختلف أنواع المركبات والعربات ، فهدّدت حياة الراكبين والراجلين ، ودفعت بالمسؤولين في كلّ قطر ومصر، إلى سنّ القوانين والترتيبات ، ورسم الشوارع والطرقات ، وتثبيت العلامات والإشارات ، وتسليط العقوبات والمخالفات ، وانتهى الأمر بتوحيد معظمها عالميا ، وعقد المؤتمرات الدّولية لتبادل الآراء والمقترحات ، فوضع ما يلائم الحاجة من الحلول والتقنيات.
لم تكن ليبيا ، في أوّل خطاها المستقلة ، من الدّول ذات المشاكل المستعصية بالنسبة لحركة المرور، قليلة الحركة والازدحام ، ورغم هذا ، فقد أولت المسألة عناية خاصة نتيجة بعد نظر المكلفين بالقطاع ، فكوّنت ، ودرّبت ، وتشاورت ، ونسقت ، وقلّدت ، حتى أنها ، عندما ازدهرت الأوضاع الإقتصادية ، وارتفع عدد العربات والمركبات والسيارات والشاحنات بسرعة مهولة ، وجدت نفسها مستعدة بشريا وتقنيا وقانونيا ، لمجابهة الأوضاع غير البسيطة ولا السهلة.
كان الشرطي المسيّر حركة المرور بالشوارع الرئيسية ، مشهدا عجيبا في حدّ ذاته ، كثيرا ما توقف المارون وطنيون وأجانب ، للتمتع والإعجاب بمهارته ، وجميل حركاته ، وتحقيق الغاية ، وهي تسهيل المرور والحركة ، وضمان سلامة الراجلين والراكبين. ثمّ جاءت التقنيات الجديدة ، واستحدث ما عرف بنور المرور، فكانت ليبيا سبّاقة في إنشائه ، رغم رفض الكثيرين الذين لم يروا لزوميته في ذلك الإبّان ، ناسين أو متناسين ، أنّ تخطيط المدن ولوازمها يجب أن تسبق الحاجة والاضطرار، كي يكون الإنشاء في راحة وعلى مهل ، لا تحت ضغط الظروف والمطالبة. هكذا ، سارت نظم وحركة المرور في ليبيا سيرا حسنا ، سباقا ، ناجحا ، فليست مبالغة إذا قلنا أنها أصبحت مثالا يحتذى ، إذ كثيرا ما ذكرت بالثناء في المحافل الدولية المختصة.
كان هذا بفضل عناية وإخلاص نخبة من المولعين بمهامّهم ، المخلصين في مساعيهم الحميدة ، القادرين على التأقلم والإقتباس ، المكرّسين الجهد حتى يجعلوا من قطاعهم مكتمل الشروط ، يخدم المواطنين والوطن على أحسن وجه وطبقا لأحدث التراتيب . أذكر من هؤلاء الجنود من اسمه لا يزال عالقا بهذه الذاكرة مثل المسؤول الأول السيد علي عقيل ، الذي ارتقى إلى رتبة عقيد ، والسيد مختار كانون وغيرهما يذكر فيُحمد.
كل هذه الارتسامات ، بقيت منقوشة في ذهني طوال نصف قرن تقريبا إلى أن زرت ليبيا لتقديم كتابي ” نسالة الذاكرة ” في معرض الكتاب – الأخير حتى الآن على ما أعتقد – فرأيت العجب العجاب. رأيت عكس كلّ ما سبق وذكرته. لم أر شرطي مرور واحد ، ولا لاحظت أحدا يحترم القوانين ، أو حتى التأدب مع غيره من السائقين والراجلين ، ولا وجود إلا للفوضى وهيمنتها ، فتحسّرت وتألمت ، فظننتني في بلد آخر غير الذي عرفته وخبرته. لكن المعالم القديمة من آثار ومبان أكدت لي موطئ قدمي ، فتأكدت أني في ليبيا لكن ليست التي عرفت. فردّدت في نفسي المقولة الشهيرة: يفعل الجاهل بنفسه ، ما لا يفعله العدو بعدوّه. ليس من طبعي التشاؤم ، وثقتي في أنّ دوام الحال من المحال كثقتي بالله سبحانه. لذا سأختم بما لا يعرفه الكثيرون.
كان الرجل في ليبيا ، إذا رافقته زوجته وركبا سيارتهما ، لا يُجلِس الحرمَ المصون بجانبه ، بل في المقعد الشرفي ، في الخلف على اليمين. ليفسّر ذلك التصرّفَ من أراد التفسير، وليستخرج منه ما أراد وشاء من المعاني ، أما أنا فقد أصدرت حكمي منذ ستة عقود. سأعود إن خطرت خاطرة جديدة وإن طال العمر.
مدريد 21-1- 2019
* الصورة:شرطي مرور بمدينة طرابلس ،مجلة ليبيا الحديثة 1967,من صفحة السيد محمد رمضان.