- القاص / عبد الكريم الساعدي
بين خطوة وأخرى يقف، يرفع
رأسه، يحاول أن يفتح عينيه كمن يفتّش عن شيء ما، يمطّ شفتيه ممتعضاً. كان الوقت
خريفاً، الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، الطريق موحش، خالٍ من المارة، الأزقة
يلفّها صمت مخيف، يسلك طريقاً آخر لعلّه يهتدي إلى بيته، يقع في حيرة، الأزقة متشابهة،
كلّ شيء صار رمادياً، يمدّ يده، تصطدم بجدار، يحدّق فيه، يبحث عن كوة لعلّه يرى
شيئاً خلفه، يحاول أن يزيح غمامة تكورت أمام عينيه، البصر يرتدّ، يغور خلف ستار
الظلام، تختفي الأشياء أمام ناظريه، يلحس الخوف ما تبقى من عقله، يتكوّر حول نفسه،
يجلس لصق الجدار، يضع رأسه بين يديه، ينتظر بزوغ الشمس لعلّه يصحو من سكره. بعد
غفوة يصحو على وقع أقدام مخيفة، يلقي نظرة حول المكان، يتحسّس مؤخرته، يبدو أن
برودة العشب سرت إليها، تتماوج أمام عينيه ملامح رأس كبير، له أذنان طويلتان،
عيناه تشكّلان كابوساً معلّقاً في الهواء، وجه يلهث وراء ضباب كثيف، متّشح بسطوة
عواء الريح، مشهد يسكنه الرعب، تتزاحم خلفه عوالم غامضة، تتّسع عيناه، يتأمل
المسافة الوهمية بينهما، تلتهمه المفاجأة، إنّه حمار جاره، بائع الغاز. أخذ يربت
على ظهره فرحاً، يمسّد شعر رقبته، يقبّل رأسه،
” شكراً لك – أيّها الحمار- لقد هديتني إلى الطريق”.
وقبل أن يدلف إلى الزقاق، تتناهى إلى سمعه أصوات غريبة، يرتدّ إلى
الخلف، يلوذ بالحمار، يمدّ رأسه بحذر شديد، ينظر بامتداد الزقاق، كانت مفاجأة
ثانية، ثمة جنود أمريكان مدجّجون بالسلاح، يحاصرون المكان، يبدون في أعلى درجات
الحذر، في الجهة اليسرى تركن سيارة همر، حاول أن يحصي عددهم ولكن دون جدوى. الظلام
شديد، الزقاق يرقد في صمت مريع،
” ما العمل؟ هل أقضي ليلتي برفقة حمار؟”.
الجنود يتوارون خلف الهمر، إلّا واحداً، يقف محنّطاً خلف برميل
صدئ، يلمع قرط فوق شحمة أذنه، يحمل بندقية، متأهب لكلّ طارئ وكأنّه صياد يروم
الانقضاض على فريسته. يطيل النظر إلى شرفات البيوت بكراهية تبرق بها ملامحه، يسحب
عينيه، يصوبهما نحوي، أجفل، أدسّ رأسي بين أقدام الحمار، أخشى أنّه تمكن من رؤيتي،
تتسرب رائحة الروث إلى أنفي، أشعر بالاختناق، أقف مرتبكاً، ألتقي بوجه الحمار ثانية،
أحسّه يضحك منّي، يبدو كلانا يرتدي ذات الوجه،
” أ تراه يسخر مني وهو يشهد فزعي؟ “.
لا، الأمر ليس لعبة، إنّهم جنود غزاة، لا يعرفون الرحمة. الحمار
ينهق ساخراً، وكأنّه يسألني:
– لماذا لا تذهب إلى بيتكم؟.
– لو لم تكن حماراً لأدركت سرّ خوفي، فأنا رجل أعزل، لا أملك غير
أسمال بالية، وتلك الخرابة الراقدة خلف الهمر.
رأسي يمتلئ بالوساوس، يتلبّسني القلق، ربما سيدخلون بيتي، لا بدّ
من عمل شيء، فكرة المقاومة تحلّ في رأسي، هي ليست جديدة، حتى الحيوان يدافع عن
نفسه، الدجاجة هذا الكائن الضعيف يدافع عن أفراخه إذا ما دنوت منه،
“أ تراني عاجزاً أن أكون مثل دجاجة أم أصبحت نكتة في هذا الزمن
القبيح؟”.
أتسوّر جدار جارنا، أصعد سطح الدار، أنظر من فسحة صغيرة، البيوت
تجترّ خوفها، الزقاق تلتهمه ريح شديدة؛ الغبار، أكياس النايلون، تتطاير في رقصة
فزع. أنظر بطرف عيني إلى الأسفل، تلتصق عيناي بوجه الجندي القابع خلف البرميل
الصدئ، رماد النعاس يرقد على جفنيه، أبتسم، أرتدي ثوب شبح، أنا أعلم أنّه خائف،
قوّتي تكمن في اختفائي، هو لا يراني. أرميه بحجر صغير، يفزّ، يلتفت إلى جميع
الجهات، لا أثر لمخلوق، يأخذ مكانه ثانية، أرمي بحجر آخر خلفه، يرتبك، يتوارى خلف
الهمر، الجنود ينتشرون في الزقاق، يخيّل إليهم أنّ الليل سرمدي، كانوا يتمنون
إدراك الفجر. بعد صمت مدجّج بالترقب، يدخل الجنود إلى الهمر، لكن هذه المرة يتناوب
على حراستهم جنديان، أحدهما زنجي. أحسّ بالزهو يملأ كياني، أرمي السيارة بحجر
أكبر، يحدث صوتاً مدوياً؛ فما كان من الجنديين إلّا أن يضيئا السماء برصاصات
عمياء. يضطرب الليل، يفتح بابه على صراخ الأطفال وفزع أهل الزقاق، الجنود كلّهم
مندهشون، أسلحتهم مشرعة في كلّ الاتجاهات، يبحثون عن هدف وسط الظلام. أنسلّ بهدوء
شديد من السطح إلى حصني قرب الحمار، كان الوقت يقترب من الفجر، الحمار يعلم أنّي
من فعل ذلك، وما من أحد غيري. المسافة بيننا لها مذاق الهدوء، كنت أحلم بإشراقة
الشمس؛ كي أقتنص فرصة للحياة. الحمار يضخّ نهيقه في الفضاء، يرسم ضجيجاً في عتمة
المكان، يدور حول نفسه في رقصة غامضة، الكلاب المنتشرة في الطرقات تشاركه في
نباحها، أهرع إليه، أتوسل صمته، أنظر في عينيه، أتعثر بهاجس غريب، تكتمل يقظتي،
القلق كبير، لا يسعني الانتظار، أفكّ عقدة الحبل، أربطه بصفيحة معدنية، الحمار
يهزّ رأسه، أدخله الزقاق، يجر خلفه الصفيحة المعدنية، الصوت وصداه يعزفان سمفونية
الرعب، يقطعان أنفاس الصمت، حان وقت الحفل؛ فليختاروا أية رقصة شاءوا، الجاز،
الفالس، البولكا. الجنود يباغتهم الضجيج، يصيبهم الفزع، الهمر تنسحب وسط نيران
كثيفة، الصوت ينقطع عند آخر الزقاق، بينما الجنود الراقصون فزعاً يتلاشون حين ينهق
الحمار بصوت أعلى من حتفه.
*من مجموعتي القصصية ( كوميديا العالم السفلي )