بقلم :: عوض الشاعري
( 1 )
الكلاب في مدينتنا لها سطوة عجيبة , والناس في الغالب يستهويهم عشق كل عجيب وغريب , ومن عادة بعض أبناء مدينتنا عشق الكلاب , والحنين إلى عوالمها , رغم كل شيء تقريباً … رغم كل شيء… حتى وإن كان هذا الشيء , منح هذه الكلاب صكوكاً على بياض , للتصرف كما يحلو لها , دون أي اعتراض من أحد , خصوصاً إذا كان هذا الأحد لايملك أي كلب قرب باب بيته , أو مجرد جرو هزيل يجعله في عداد أصحاب الكلاب , العارفين بأسرارها وقوانينها , التي سنها حكيم بدوي , أجبر خصومه على الإمساك بذيل أطول كلابه بطريقة عمودية , وغمره بمحصول قريتهم وكل القرى المجاورة من قمح البرية المحصود بمناجل لامعة تحت ضوء القمر , وعندما لمح نظرة الانكسار في عيون غرمائه , أصدر حكمته الذهبية : ” لا تضرب كلباً , قبل أن تعرف صاحبه ” !! ورغم أن الكلاب ـ كما هي الآن ـ لم تكن تحمل هوية أو علامة , أو وسماً يميزها عن بعضها البعض , أسوة بكل حيوانات القرى الموسومة بندبة معينة , تحدد هويتها أو هوية مالكها على الأقل فالأبل في الصحراء المتاخمة للقرى , تحمل شيفرة على أفخاذها تلوح من بعيد , والأبقار في الحظائر توشى رقابها بشيفرة مشابهة , وأغنام المراعي تغطي نصف أصداغها علامات مماثلة , وكذلك الماعز والخيول وبعض الحمير … كلها لم تنج أجسادها من الكي والدمغ بمياسم حديدية محماة على جمر ملتهب وحدها الكلاب فقد حرمت أجسادها على نيران القبائل , خوفاً من لعنة سلطان الحكمة , الذي أطلق فتواه الذهبية ورحل بعد ثلاثة أهلة كاملة , ولم ينتظر مواسم المطر التي لم تصب القرى , منذ أغلق عليه قبره , وأثقلوه بحجارة من صوان تقول الأسطورة : أن كلباً من سلالة أطول الكلاب وجوهاً , ظل قائماً على رمس الحكيم حتى صرعه الكمد والجوع , فقرر وجهاء القرية دفنه جنباً إلى جثة الحكيم تكريماً لوفائه , وظلت الكلاب في مدينتنا منذ تلك الحادثة ” تمذرح ” بأذنابها في خيلاء , وتطيل من اخراج ألسنتها في وجوه المارة والسابلة , مستمدة سلطانها من بركة الحكيم حتى الليلة القادمة .
( 2 )
فحينما تقرصك بعوضة الوقت , ويعض أحلامك نباح الكلاب المموسق بصياح الديكة قبيل الفجر , ثق أنك لازلت تعيش على الأرض , وتسكن هذه المدينة ـ التي ورثت كل القرى المجاورة ـ منذ مليون صبح على التوالي , ولازلت كعادتك تخرج من بيتك , كل ضحى توزع الابتسامات , وحلوى السلام على الأطفال والمارة , وتفشي الأسرار التي راودت قلمك في الليلة التي برحت منذ سويعات وحيثما تقود سيارتك ذات مساء ليس فيه ضوء قمر , ويقطع طريقك قطيع من الكلاب , وتضرب أوصالك فوبيا العزلة , فثق مرة أخرى أنك لم تزل في مدينتك العامرة بالمتناقضات , وبين رحاب أحد أحياءها السعيدة , مثلما أنت , ودونما أدنى تغيير وعندما تقودك قدماك على حين صدفة , لزيارة صديق , أو عيادة قريب انفجرت مرارته دون سابق أعراض , وتقرر أن ترجع بالذاكرة , لتستكشف ما طرأ على مدينتك من حداثة , فيداهمك ” شلاق النابحين “… فتأكد أنك لازلت تتنفس أكثر من عشرين مرة في الدقيقة الواحدة , وأن غدة العرق لازالت قادرة على ضخ سوائلها عبر كل مسام جسدك المرهق , وأن قلبك مازال يئن بين جنبيك مثل رشاش سريع الخفقات , وأنك أيضاً لم تزل تستطيع الركض بين أزقة مدينتك وحواريها الطاعنة في فوضاها منذ مليون مساء متشح بمصابيح رديئة الإضاءة وحينما يرجع طفلك الذي لم يتجاوز الخمسين دورة قمرية من عمره المديد , منهوش عضلة الساق , ممزق بذلة العيد … فتيقن أن كلباً له أكثر من مالك في المدينة , لم يرقه رؤية الصبي متقيداً بقواعد البيئة , ووضع مخلفات الأضحية في “صندوق البلدية” وعندما تشكو حليلة جارك السابع فقد أكثر دجاجاتها إنتاجاً للبيض أوان الغروب , أو أن يهاتفك بنو عمومتك طلباً للمساعدة في البحث عن عنزاتهم التي ضلت طريقها إلى الحظيرة على غير العادة , ما عليك إلا أن تفتش عن الكلاب وعندما يخترق سمعك صوت طائش من شدق بندقية صيد في وضح الظهيرة , أو صيحة استغاثة امرأة مسنة بعد صلاة العشاء , فثمة كلب عقور خلف تلك الصرخة , أو ذلك الدوي الذي أتلف نصف أنسجة طبلة أذنك اليسرى وعندما يشج رأسك حجر طائر أو يحطم زجاج سيارتك أو نافذة غرفتك , ولا تجد أحداً في الشارع , أو ربما تشاهد دائرة من العراك البدائي , فتأكد أن كلباً مشاكس خلف كل ما جرى , لك ولأصحاب الدائرة أيضاً , وستكتشف أن سبب التئام الدائرة , كلباً مسروقاً أو سارقاً لحمامة جاره , أو في أغلب الأحيان , أن أحدهم ممن أصيب بعقرة كلب مات منذ عشرة الاف ليلة قد عاودته حمى النباح وعندما تقرر ذات جمعة أن تصطحب صغار أسرتك إلى أحد شواطيء البحر الذي يلف مدينتك مثل هلال قديم , وتفاجئك هذ المرة زمرة من الكلاب بملامحها الذئبية , فتتذكر على الفور تعبيراً شعبياً يؤكد أن ” البحر فيه كلب “,…فتخشى على لحم ابنائك , وتقفل عائدا إلى البيت وفي طريق عودتك تصدمك رؤية حادث مروري مروع , وتأتيك الإجابة دون سؤال : – لقد حاول المرحوم أن يتفادى الاصطدام بكلب أجرب .
وتفلت منك العبارة :
– ليته قتله .
وفي البيت تتعالى أصوات أطفالك بالشكوى :
– ليس ثمة ماء … الملح يلهب جلودنا .
فتخرج الكلمات من بين شفتيك وتردد :
– مؤكد أن كلباً ما قد أغلق الصنبور هذه المرة .