د.محمد فتحي عبد العال كاتب وباحث وروائي مصري
أول ما يجذبك في هذه المجلات هو الشعار الذي يزين صدر صفحاتها في صورة الحكمة التي تعلو غلافها والتي قد تكون شعرا كما بمجلة (روضة المدارس المصرية) :”تعلّم العلمَ واقرأ تحُز فَخارَ النبوّة فاللهُ قالَ ليحيى خُذِ الكتابَ بقوّة” وقد تكون نثرا مثل “الفضيلة أساس العلم والعلم عنوان مجد الأمم وسر عظمتها” شعار مجلة المدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية عام 1933 و”الشباب قوة وثابة توجهها المدرسة الحازمة إلى طيب الأعمال “شعار عامي 1935 و1942 من نفس المجلة ومما يلاحظ أيضا هو الاستقلالية التي تمتعت بها المدراس عن نظارة المعارف في إصدار مجلاتها فأغلب ما وقع تحت يدي يحمل في إشرافه ناظر المدرسة ومجموعة من المدرسين مثل مجلة رقي المعارف الصادرة عن مدرسة رقي المعارف الثانوية العدد الثالث السنة الثالثة بتاريخ 30 مارس 1931 فمدير المجلة صاحب العزة (انظر لباقة التشريف عزيزي القاريء)محمد بك عبد الصمد رئيس فخري الجمعية الأدبية وفي مجلة المدرسة الخديوية ديسمبر 1926 السنة السادسة اشراف صاحب العزة محمد بك لبيب الكرداني كما أنه على عكس السائد من أن الصعيد كان مهملا في العصر الملكي نجد صحيفة مدرسة قنا الثانوية مارس 1932 العدد الثاني السنة الثانية ومدير المجلة حضرة الاستاذ ابراهيم شعبان ناظر المدرسة ونجد أيضا كتابا ذهبيا لمجلة مدرسة أسيوط الثانوية للبنين 1948-1949.كما لم يكن لزاما على المدرسة أو الجامعة التقيد باسمها عند تسمية المجلة فنجد المجلة السنوية لكلية سان مارك العريقة بالإسكندرية (أقامها الرهبان الكاثوليك عام 1928) تحمل اسم اللوتس وصحيفة كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول 1939 تحمل اسم القبس .الحقيقة أنه ما من مدرسة ولا جامعة إلا خلت فيها صحيفة .حقا كان عهدا ذهبيا لليبرالية والثقافة وشجاعة بناء العقول. ماذا لو أعدنا هذا المجد وعملنا على إحيائه وأصبح لكل مدرسة وكلية ومعهد مجلة ثقافية تصدر رقمية بأقلام أساتذته وطلابه ولن أقول ورقية حتى لا يكون الأمر مكلفا وتكون تحت إشراف النظار والعمداء ووزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي بالتأكيد سيكون العائد كبيرا . من الأدوات الأخرى للتعبير و التواصل مع الجيل الناشىء المسرح المدرسي والذي أهمل تماما حتى كاد أن يندثر في مصر والعالم العربي إن لم يكن بالفعل قد طواه النسيان . بحسب كتاب الدكتور سيد علي اسماعيل (تاريخ المسرح في العالم العربي: القرن التاسع عشر ) فأقدم ذكر للمسرح المدرسي في مصر كان عام 1870 من قبل طلاب مدرسة العمليات (الهندسة) ومن بعدها تنوعت المسرحيات بشكل كبير وصار التباري بين المدارس المختلفة على تقديم العروض المسرحية في المحافظات المختلفة ومن عناوين المسرحيات تتضح أهدافها التربوية مثل روايات :ثمرة الصبر -النجاة في الصدق-الحث على التعليم -بر الوالدين-عاقبة الخيانة -سيدنا عمر مع الإعرابي القاتل وضامنه إبي ذر -أخو الخنساء-الابن الشاطر -ناكر الجميل -أصحاب الأخدود -صلاح الدين ومملكة أورشليم وغيرهم لكن سنتوقف عند مسرحية (صلاح الدين الأيوبي و مملكة أورشليم) والتي عرضت ضمن الحفلة السنوية لمدرسة رقي المعارف الثانوية بحديقة الأزبكية عام 1931 مع رواية (أصول الفن) حيث بدأت الحفلة بحسب المجلة المدرسية في تمام التاسعة بالنشيد الخاص بالمدرسة :”نحن أشبال الحمى والفداء للوطن” من تلحين “الاستاذ القدير والموسيقى البارع السيد مختار مدرس العلوم بالمدرسة والعضو الفني بمعهد الموسيقى الشرقي “.أجاد الطلبة أدوارهم ومنهم (عبد المنعم عفيفي) رئيس الفرقة والطالب عبد الكريم في دور صلاح الدين وحملت المجلة صور الطالب (باروخ يوسف مسعوده) الذي أدى دور فخر الدين في الرواية .إلى هنا الأمر رائع وجدير بالفخر ويستحق الإشاده لكن منه ندلف للجانب أليس برائع و المظلم لما يحتويه من عبث بحقائق التاريخ والقفز على ثوابته وحوادثه الخالدة . تستند المسرحية في أحداثها لرواية (فرح انطون )التي حملت نفس الأسم والتي كتبها عام 1914 ونشرت عام 1923 وتدور أحداثها عن الأميرة ماريا أخت رنولد دى شاتيليون أمير الكرك والتي تدفعها الرغبة في الانتقام للتخفي في هيئة مملوك هدية للسلطان صلاح الدين للانتقام منه لقتله أخيها وبقصر السلطان تدبر المكائد وينكشف أمرها لكن صلاح الدين يعفو عنها إلا أنها تعاود الكرة و تستمر في مؤامراتها لقتله فتارة تستميل القائد المملوك أياز لقتل السلطان مقابل الزواج منه وتارة أخرى تتفق مع مجد الدين ابن السلطان على الأمر ذاته وفي نهاية الرواية تحاول قتل السلطان بخنجرها كما اشتملت الرواية على خط درامي آخر مثله تسلل الأمير برنار متخفيا في هيئة ناسك وأطلق على نفسه برنت من أجل إفساد الهدنة حيث راح يؤلب جنود السلطان على ملوك أوروبا ويوقع بين ملوك أوروبا وصلاح الدين ولا يتوقف العبث التاريخي بالمسرحية عند ذلك بل يمتد إلى التفسير التاريخي للأحداث فموقعة حطين مثلا نتيجة لأسر واختطاف أخت السلطان!!! الحقيقة أن قصة صلاح الدين لم تقدم ولو لمرة واحدة بشكلها الحقيقي منذ ظهورها للمرة الأولى على المسرح المصري بل والعربي أيضا ولنحكي الحكاية من البداية . كان الظهور الأول لشخصية صلاح الدين الأيوبي ضمن فرقة سليمان الحداد في مارس عام 1893 بدار الأوبرا الخديوية وكان عنوان المسرحية (السلطان صلاح الدين مع ريكاردوس قلب الأسد) تأليف الشيخ نجيب سليمان الحداد !!نعم عزيزي القارىء ابن صاحب الفرقة وتدور أحداث المسرحية في فترة مرض ريتشارد قلب الأسد وحضور صلاح الدين متنكرا لعلاجه ليكتشف مؤامرة المركيز دي منسرات وسرقته لراية ريتشارد حتى يوقع بغريمه وليم حارس الراية ويفوز بالأميرة جوليا أخت ريتشارد وحبيبة وليم والتي تستعطف أخاها دون جدوى للإبقاء على حياة وليم المظلوم وهنا يتدخل صلاح الدين بنخوته العربية وكان لازال متخفيا في ثوب الطبيب ويأخذ وليم جزاءا لعلاجه ريتشارد وتمر الأحداث ويكشف صلاح الدين لريتشارد أنه الطبيب الذي عالجه وأن وليم بريء والمركيز متآمر!!!! المسرحية نشرت عام 1929 تحت اسم (صلاح الدين الأيوبي) وعلى الرغم من التأثر الواضح في هذه المسرحية برواية الطلسم للكاتب الإنجليزي السير (والتر سكوت) والتي تدور في فلك نفس الأحداث تقريبا مع زيادة طفيفة أن صلاح الدين عالج ريتشارد بالطلسم والذي ظل وسيلة علاجية للمجانين ومرضى النزيف حتى أوقفته الكنيسة لكونه سحرا وكعادة الشرقيين في عدم نسبة الفضل لأصحابه وهي من الخصال التي تجمعنا جميعا وكأنها جين مستأسد في دمائنا فقد قطع الشيخ نجيب الطريق أمام فرضية الاقتباس في إهداء الرواية لخاله الشيخ إبراهيم اليازجي بقوله هذه أول رواية تمثيلية وضعتها من عند نفسي غير مستند على التعريب فيها ) . ظل النص الذي كتبه الشيخ نجيب حداد هو المعتمد والسائد لدى الفرق المسرحية في مصر وفي البلدان العربية أيضا ففي العراق مثلا تحدثنا جريدة العراق في عددها 500 في 12 كانون الثاني لعام 1922 عن قيام “التلامذة اليهود” بتمثيل رواية (صلاح الدين وريكاردوس قلب الأسد) على مسرح الرويال سينما كما شاركتها الشهرة رواية فرح انطون :(صلاح الدين ومملكة أورشليم ) والتي عرضت بقصر عابدين عام 1942 حيث قام بدور صلاح الدين جورج أبيض بك وحسين رياض بدور الناسك برنت وعبد العزيز خليل بدور اياز. لذلك عزيزي القارىء لو تقدمنا بالزمن سويا لعام 1963 مع عرض فيلم الناصر صلاح الدين فلا تندهش من مصطلحات وأحداث في غير سياقها الزمني مثل : “سلطان العرب” و”أورشليم” ولقاء ريتشارد بصلاح الدين وعلاج صلاح الدين لريتشارد وفرجينيا جميلة الجميلات وكل هذا العبث بالتاريخ الموجود بالفيلم فالقصة منذ البداية ولدت مشوهة ومبتورة ولقد كان الكاتب الإنجليزي (السير والتر سكوت) الأب الروحي لهذا التشويه هو الأكثر وضوحا في اعترافه بتنحية الحقائق التاريخية جانبا حينما كتب في مقدمته لرواية الطلسم ” ويُمكننا على الجُملة أن نقول إنَّ أكثر الحوادث المُساقة في القصة التالية هي من خلْق الخيال، وأنَّ الحقيقة، حيثما توجَد؛ لا أثرَ لها إلا في أشخاص الرواية”. المثير أنه حينما كتبت قصة صلاح الدين بمنظور عربي تاريخي صرف وجاد أضيف للشخصية ما ليس فيها وحملت ما ليست أهل له من أفكار ولخدمة أيدولوجيات لا تمت لواقع الشخصية بصلة كالقومية العربية والوحدة العربية والقضية الفلسطينية ويمكن الرجوع لكتابي تأملات بين العلم والدين والحضارة الجزء الأول للمزيد حول هذه الشخصية .نعم للإبداع مكان في العمل التاريخي وتطويعه لخدمة فكرة أو هدف لكن لا ينبغي بأي حال أن يتغول على الحقائق التاريخية ويسقطها. إن للمسرح المدرسي قيمة كبيرة في تشكيل الوعي وبناء العقول إن استند على تاريخ حقيقي وقيم مجتمعية هادفة وبناءة ولنا في مسرحيات عبد الله النديم صاحب مجلة التنكيت والتبكيت ومحمود مراد مدرس المسرح بالمدرسة الخديوية عام 1921 وزكي طليمات رائد المسرح وأول مفتش للتمثيل بوزارة المعارف عام 1936 القدوة الحسنة والمثل الصالح