فرج الضوى
كان الخارج مرعبا ، صباحا حينما كانت أمى تمسكنى من يدى لنمضى فى الحارة الطويلة الضيقة التى يصطف فيها سور المدرسة الشاهق، وأمامه أشجار الكافور الباسقة، بخار أنفاسى يتلاحق أمام عيونى ورائحة دخان احتراق أوراق الكافور التى يصنعها الناس.
كان العالم جديدا ومخيفا لى ، برغم أننى أتفاعل معه ومع كل شىء ، أصنع الأحداث الضاحكة المبهجة فى الفصل إذا اتيح ذلك ، وأضرب زميلتى فى الفسحة فوق رأسها بالحقيبة لأنها تقف دوما باختيار كل المدرسين لتكتب أسماء المشاغبين على السبورة وأنا دوما أكون أولهم ، فأرشقها بها على رأسها وأقول لها كَتّابة الأسامى… !
بائع الحرنكش وأم الخلول والدوم وبائع الفئران البلاستيكية التى ثمنها شلن نصف مصروفى ، وما يتبقى من البريزة- العشرة صاغ – أشترى به توتا من بائعة التوت التى تجلس بمشنتها على باب الشارع مسندة ظهرها إلى عامود الإنارة، تلفه فى قرطاس أبيض من ورق الكراسات التى يصطبغ لونه بها ، فألتهمه واحدة تلو الأخرى بسرعة قبل أن أصل إلى البيت خوفا من تأنيب أمى وتوبيخها، لأن التوت كما تظن هو السبب الرئيس لكل أمراض معدتى….
ماتزال رائحة الحرنكش كلما اشتممتها تثير فىّ ذاك الإحساس المخيف ، لا أدرى لم…! ربما لأن المدرسة كانت أول المسؤليات وأول ثقل لعبىء يوضع على أكتافى الصغيرة التى بالكاد تحمل الحقيبة ؛ وفى أوقات اللعب والإنطلاق والحرية ربما قد خلقت فقط لحمل كرتى وألعابى .
كانت جميلة بوجهها الأبيض المدور وشعرها الأسود الداكن المتدلى على رأسها كخيمة فوق تلة ، فأنتهز الازدحام وتلاطم الأولاد فى الطابور وعندما نصعد أوننزل من الدرج إلى الفناء، أندس بين الأولاد خلسة لألمس خدودها الجميلة الوردية الناعمة ، كأنى بستانى يتعمد لمس بتلات ووريقات قطيفة الوردات ، فذلك يشعرنى بالسعادة ، أشعر بانتصار وإنجاز وشىء أحبه قد اقتنصته ، و كلما رجعت إلى البيت أفكر بها وأنا مبتسم ابتسامة بريئة و أكتب اسمها على قصاصة ورقية أضعها فى جيب بيجامتى الكاستور – التى صنعتها سومة الخياطة – ، فذلك الصنيع يجعلنى كأنى أرسل لها رسالة وخطابا ومكتوبا من قلبى إلى قلبها فى الغيب ….
اليوم وبعدما يقارب النصف قرن كلما مررت من ذلك الشارع بحذاء سور المدرسة ، لا أجد أشجار الكافور ولا بائع الحرنكش والدوم ولا أمى التى كانت تمسك بيدى ولا الوردة التى كنت ألمس خدودها ، لكننى كلما أمسكت ثمرة حرنكش أشمها يعاودنى ذلك الإحساس بكل تلك الذكريات و بذلك الخوف اللذيذ …..














