قراءة في ديوان الشاعرة التونسية سنية مدوري جرح الكمنجات

قراءة في ديوان الشاعرة التونسية سنية مدوري جرح الكمنجات

  • محمد بوحوش

جرح الكمنجات’ هو عنوان مجموعة شعرية للشاعرة التونسية  سنية مدوري  صدرت سنة 2022 عن دار الفردوس للنشر والتوزيع في طبعة أولى. جاءت في 111 صفحة من الحجم المتوسط، وتضمنت تقديما للشاعر الصديق خالد الوغلاني حول  ما سماه قصيدة الشعر، فقراءة له للمجموعة وسمها ب’ثلاثية الحبّ والجرح والقصيدة’ ، ثم قراءة ثانية للدكتور الفقيد محمد الغزي عنوانها’ جرح الكمنجات والبحث عن لغة مختلفة’ فتصدير هو عبارة عن قصيدة للشاعرة سنية مدوري وأخيرا 41 قصيدة تراوحت بين الطول والقصر.

* تصدير:”  الجرح هو المكان الذي يدخل منه النور” جلال الدين الرومي”.

اقتنيت الكتاب من معرض تونس الدولي للكتاب لأنّي شممت رائحة الشعر المختلف فيه، ولكوني ممن يتحسس الشعر بأنفه، أنفي الذي يقودني إلى تخير النصوص الشعرية. وعند القراءة، انجذبت إلى المجموعة فأغرتني بالكتابة عنها، وقد يحتاج الأمر إلى كتابة متن طويل موضوعه التيمات التالية: العتبة/ العنوان، فاللغة/ القصيدة ، وثنائية الحب / الألم.

ففي الموضوع الأول اختارت الشاعرة سنية مدوري عنوان، جرح الكمنجات، الذي يستدعي وقفة وتأملا في رمزيته ودلالاته وعلاقته بمحتوى القصائد.

الكمنجة أو الكمان، تلك الآلة الموسيقية  الشرقية ذات الأوتار الأربعة كثيرا ما تردّدت لفظا ورمزا على ألسنة الشعراء  مثال فريدريك غارسيا لوركا ومحمود درويش، والغجر الذين تلازمهم هذه الآلة الموسيقية في حلهم  وترحالهم باعتبارها تعبر عن تغريبتهم وماضيهم وحياتهم القلقة.

الشاعر حين يكتب قصيدة فهو يجرح البياض، والكمان حين يعزف فإنه يعبّر عن الشعور واللاشعور، ويقولهما بلغة أخرى تنتمي إلى فن السماع، فيتحسس الإنسان ما كان لحنا شجيا أكان مرافقا للكلمة أم من دونها.

الكمنجة تجرح الصمت والفراغ فتعبر عن لغة مخصوصة، مثلما هو الحال مع القصيدة التي تعبر عما يختلج في النفس من مشاعر وأفكار تنتمي إلى الوعي أو اللاوعي. عمدت الشاعرة سنية مدوري إلى صيغة الجمع فقالت الكمنجات في دلالة رمزية تومئ إلى القصائد التي تنتمي إلى فن التّعبير فهي أقرب إلى الكمنجات في بوحها. ومن القول والتعبير ما كان جارحا حين يتعلق الأمر بإرادة القول، قول ما تختزنه الذات البشرية من هموم وآلام.

أما في التيمة الثانية وهي اللغة / القصيدة فإن الشاعرة سنية مدوري تبدو كما لو أنها كائن لغوي صرف، تقيم في محراب اللغة، وتناجي القصيدة في أكثر من نص، أو فلنقل في أغلب النصوص إلى حد التماهي والانصهار. فكأن حياتها شعر، قصيدة، تكتبها بولع وشوق وبحرارة  قلب موجوع، هاجسها في ذلك البحث عن لغة جديدة. فهي تكتب بالدّم إذ يتحسس القارئ ذاك الشجن وتلك القطرات الحرّى التي تنسكب لتقول ما يعتمل في الذات.

تتعالق التيمات الثلاث في هذه المجموعة ليكون جوهرها الحبّ، هذا العذاب/اللغز، الذي حير الإنسان.

يقول الشاعر نزار قباني:” الحبّ كالحرب… خسائره كثيرة ومكاسبه قليلة… ومع ذلك نخوض الحربين”

 الحبّ في هذه المجموعة الشعرية كالحرب، بل هو الألم في صيغة حب. تمزح الشاعرة بين هذا وذاك، بين الحب والألم، فأغلب القصائد تبدأ بالحب وتنتهي بالخيبة والألم والفقد. ومن المعجم في هذه المجموعة ما يدلّ على ذلك لاسيّما في خواتم النصوص. يتجلّى الحبّ هنا في صيغة علاقة حميمة بين رجل وامرأة، في صيغة حب صوفي إشراقي متعال، في صيغة حب للوطن والقصيدة، وفي صيغة خسارات فادحة وذكريات حميمة.

لعلي لا أبالغ حين أقول إن هذا الحبّ هو ألم، وإن هذا الألم هو حبّ. وعلى هذا المعنى وغيره يقول الشّاعر ‘بول إيلوار’ : ”  الحبّ هو الألم الوحيد الذي يمكننا الاستمتاع به”.

 فلا مبالغة في ذلك اذا ما علمنا أن سيغموند فرويد في تحليله لبعض الأعمال الفنية والأدبية أشار بما معناه إلى أنّ الفنّ هو خطوة إلى ما وراء الواقع، وهو التصوير المسرحي للألم. كما ذكر أنّ الفن، والمعنى هنا معقود على الشعر فهو منه، ينشأ من صراعات الإنسان. فالفنان أو الشاعر لا يستطيع  اختبار رغباته اللاشعورية في مستوى الذات الواعية أي الأنا بسبب المحظورات الاجتماعية. فيكون حل الصراع بين الوعي واللاوعي بمنتج إبداعي من خلال ما يسميه بآلية التسامي.

في مجموعة سنية مدوري نلحظ بيسر هذا الخيط الدرامي، هذا الصراع النفسي، وهذا المابين، أي ما بين الحب  والخيبة، ما بين اللذة والألم ، وما بين الشوق واللاتوق. فكثيرا ما تتردد عبارات الجرح في هذا المتن الشعري وغيرها من عبارات الوجع والألم، والأفول، والفقد والحزن والعمى والفراق والجفاء والحرائق، والنحيب، والمأتم والعطش، والثقوب والانفطار، والانطفاء، وهلم جرا من المفردات التي تحتاج إلى دراسة أسلوبية،  مقابل معجم آخر قوامه الشوق ، والعشق  واللقاء، والطيران، والحمحمة، والرغبات والقبلات والكؤوس،  والوله والعطر والورد والنبض، والعناق، والشراب، والانتشاء والفيض ، والأنخاب، والاشتهاء والكثير من ذلك.

ختاما هذا الكتاب من الشعر الذي اجترح من القلب العاشق المدمّى، ممّا هو صراع الذات الجوانيّ والدّراميّ. قرأته مرات وهممت بأن أكتب عنه كتابا لا قراءة كهذه، لعل يسعفني الزمن العجول لأعود إليه في مصافحة أعمق.

شكرا لسنية مدوري التي أهدتنا هذا العذاب الكوني الذي لا يزول، بل هذا العشق اللغز الذي لا نجد له تفسيرا.

*محمد بوحوش

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :