بقلم :: د :: نور الدين سعد الورفلي
مقدمة:
انشغلت السينما العالمية الكلاسيكية والمعاصرة، خلال فترة من فترات تطورها، بالفيلم التاريخي, سواءً من خلال الأسطورة، أو من خلال بعض الموضوعات التاريخية الحديثة، لكي تترجمها عبر الصور المتحركة حيث أصبح التاريخ من خلالها يكتب بلغة الصورة بدلاً من الوثيقة التاريخية المكتوبة باليد أو المطبوعة بالآلة على الورق.
والواقع أنني سوف لن أتجه في هذا البحث إلى هوليوود الأمريكية، بل سأذهب مباشرةً إلى مؤسسة أخرى إيطالية هامة جداً وسباقة إلى اﻻهتمام بالفيلم التاريخي، (Cinecitta) أو يمكن تعريبها عن الإيطالية بـ (مدينة السينما)، التي كان موسيليني قد افتتحها شخصياً في العام 1922م بعد اعتلائه عرش السلطة في ايطاليا من خلال فوز حزبه الفاشي، الذي أراد من خلاله إحياء حقبة تاريخية لروما الحديثة منسوخة من أمجاد روما القديمة، ومدعومة بفكر سياسيي عصر النهضة الأوروبية الفلورنسية الميلاد والنشأة من خلال أفكار الفيلسوف والمفكر الفلورنسي الإيطالي ماكيافيلي، والذي كان كتابه الأمير على سبيل المثال لا الحصر، مشروعاً لرسالة أكاديمية كان موسيليني قد تقدم بها إلى الجامعة، حيث كانت السينما بالنسبة لهذا الأخير مدخلاً هاماً لنشر أفكاره، ووسيطاً كان قد لعب دوره في الدعاية للأيدولوجيا الفاشية التي ينادي بها ويدعو لها. وحينما تم افتتاح مدينة السينما على يدي موسيليني نفسه كان قد كتب على بوابتها الضخمة المعمار كتابة لاتقل ضخامة عن هذه البوابة، في جملة كان موسيليني قد ابتدعها: <<السينما هي سلاح الأقوى>>.
وكانت مدينة السينما هذه قد أنتجت خلال الفترة الممتدة من 1922ـ1942، أفلاما عديدة اكتسحت وفي فترة وجيزة صالات العرض المحلية والعالمية، وسوف لن أنشغل بتعدادها كلها، لكن ما يهمني منها هو الأفلام التي عُملت في ليبيا، تلك المستعمرة الإيطالية منذ العام 1911ـ 1951 فهي بالإضافة إلى اهتمامها بأفلام الحرب والاستعمار في القرن العشرين، شهدت هذه السينما العالمية فترة من الزمان انشغلت خلالها بالفيلم التاريخي من خلال الأسطورة والحدث والشخصية الخالدة.
و الحقيقة أنها كانت بهذا الميول إلى الفيلم التاريخي، تحيي في زماننا الحاضر قصص التاريخ القديم بكل أحداثه ومآسيه، بكل ما فيه من بطولات خارقة وفروسية نادرة، وبكل ما فيه من مؤامرات وثورات عشنا فيها أصل المكر والدهاء وعراقة الداء والدواء في حياتنا السياسية المعاصرة، ليوسع من أفق المشاهد ومداركه وينطلق به نحو عالم أوسع وأرحب، أصابه الخراب والدمار من الحرب العالمية الثانية.
و مثلما كانت هوليوود الأمريكية، سباقة إلى اسستخدام التاريخ القديم بكل ما فيه من حروب و مؤامرات، كانت مدينة السينما الإيطالية كذلك، على الرغم من اهتمامها بالدعاية للفاشية، و دراستها للسيناريوهات التي تعيد التاريخ الحديث بشفرات قديمة لإحياء أمجاد روما القديمة، فكان أن تم الاشتغال على شخصيات بطولية تاريخية، مثل حنابعل، و نيرون، و هرقل المصارع الجبار، وتم إعادة الإمبراطورية الرومانية في أفلام عديدة، وبرزت شخصيات أخرى منها، يوليوس قيصر، و كيليو باترا ملكة مصر، و غيرهم من الشخصيات التاريخية، مبرزة الخصائص الدرامية للمكر و الدهاء، متحدثة عن حصان طروادة في ملاحم هامة، كا لإلياذة، وكذا الأبطال الذين لا يقهرون كالأوذيسا و جلجامش، مصورةً في غاية من البراعة، الأحداث الأسطورية، و معيدة بطولات التاريخ المكتوب في أشرطة سينمائية تتحرك.
و تجدر الإشارة هنا إلى أنني أود من خلال هذه الورقة البحثية، أن أتحدث عن فيلم إيطالي معاصر جداً، أنتج في العام 2006 م، يدّعي أنه منساق إلى مدرسة إيطالية ظهرت على إثر الحرب العالمية الثانية، سنة 1945، <<مدرسة الواقعية الجديدة>>، و هو فيلم استعماري تمت عمليات معالجته من خلال إبراز قيمة الاستعمار بدقة منقطعة النظير، و من خلاله سيتم التعرف على أساليب النقد السينمائي الإيطالي الحديث، من خلال بعض أساتذة الجامعات الإيطالية، الذين سأستشهد بأقوالهم في تحليل مقارن لبعض اﻵراء التي رأيت بأنها كانت على الحياد أو لنقل أنها كانت آراء موضوعية.
فيلم زهرات الصحراء للمخرج ماريو مونيشيللي:
تحت عنوان ” إيطاليا السينما العظيمة، تُحرك عنصريتنا من جديد”، كتبت الناقدة، آنّا ماريا ريفيرا، مقالاً عن السينما الإيطالية المعاصرة، في صحيفة المانيفيستو الإيطالية، في عددها الصادر في 14ـ 11ـ 2006 مسيحي، افتتحته بسؤال: “لماذا لا تمتلك السينما الإيطالية المعاصرة، والتي تم إنتاجها في الأعوام الأخيرة، الآليات المعرفية القادرة على أن تفسر الآخر؟”[1]. وكانت في واقع الأمر قد طرحت هذا السؤال بالذات، على آخر الأفلام التي تم إنتاجها في السنتين الأخيرتين، فيلم “زهرات الصحراء”، للمخرج ماريو مونيشيلي، الذي تم إنتاجه في نفس العام 2006، وهو فيلم مقتبس من مجموعة روايات إيطالية، عاصر مؤلفوها حقبة اﻻحتلال الإيطالي لليبيا، والحرب العالمية الثانية التي دارت رحاها في الصحراءالليبية ولعل أهمها روايتي “الصحراء الليبية” للكاتب الإيطالي “ماريو توبينو”، والتي كان قد استلهمها المخرج “ماريو مونيشيلي” بشكل حلزوني زخرفي مع التحوير في الشكل وفي المضمون كذلك، ومسخ الشخصيات وإحالتها إلى أجواء هزلية، ولا أريد أن أقول كوميدية، فالكوميديا، شيء آخر طالما تم تداوله وترجمته إلى اللغة العربية بشكل خاطئ، إضافة إلى رواية الجندي سانا، لـ جان كارلو فوسكو”.
وكان كُتّاب السيناريو الطليان، في الفترة الأخيرة، وإن كانوا، يحاولون استشارة المصادر التاريخية في هذا الفيلم تحديداً والذي جسدوا فيه المشاهد السينمائية بنفس الفخامة التي تجسد بها الأعمال التسجيلية التاريخية محاولة منهم إهداءها إلى حقبة اﻻستعمار الإيطالي في ليبيا، بنفس الشكل الذي كانوا قد استطاعوا فيه أن يُلمحوا إلى استعمار من نوع آخر، أو بالأحرى يلمعوا، أعماق الأحداث للحقبة اﻻستعمارية متجاهلين عن عمد، ما حصل من جرائم فضيعه كالنفي، والتشريد، ومعسكرات التعذيب، واستخدام الغازات السامة المميتة والتي كانت محظورة عالمياً، إضافة إلى المجازر وحرب الإبادة والقتل الجماعي، وهو بالضبط ما تنوه له “ماريا ريفيرا” في مقالها، وتؤكد عليه وتضع إضافة إلى ذلك مقارنة مع الفيلم التاريخي الضخم، “عمر المختار” (أسد الصحراء) للمخرج “مصطفى العقاد” 1979. حين تتساءل: “كم من المجحف، بعد فترة امتدت إلى أكثر من ثلاثين عاماً من البحث التاريخي للحرب الاستعمارية الإيطالية، أن الأفلام العنصرية، والتي تتجاسر على كسر الصمت لهذا المحرّم أو المحظور العالمي، لم تزل تتطاول في تجاربها، على أن تضمن للآخرين حدوثه أو قصة أشبه ما تكون بالخرافية، لإيطاليا استعمارية، ودودة، وحالمة، طيبة ووديعة[2]. وفضلاً عن ذلك ففي الوقت الذي لايزال فيه فيلم أسد الصحراء”عمر المختار ” ضمن القائمة السوداء للأفلام المحرمة في إيطاليا، وهو الفيلم الذي تم إنتاجه وتصويره في ليبيا[3] “. إنه ببساطة، فيلم يتناول حياة البطل العالمي ورمز الجهاد في ليبيا، عمر المختار، الذي شنق بعد محاكمة عسكرية لم يكن لها أي مبرر سوى أن تكون شاهدة على المهزلة التاريخية، لتلك الحقبة، حينما يشنق شيخ أسير حرب في مثل ذلك العمر، وهو عمل فني على الرغم من الطاقم التمثيلي الاستتنائي: أنتوني كوين، أوليفر ريد، رود ستايغر، إيرين باباس، كاستوني موسكين، والممثل الإيطالي ” راف فالوني” الذي جسد شخصية “الفضيل أبو عمر”، الرفيق الأكثر قرباً من البطل الشيخ عمر المختار، وكذالك الممثل جون جيلغود ــ وعلى الرغم من ذلك، لم يزل هذا الفيلم، و إلى يومنا هذا داخلاً في نطاق المنع والتحريم في صالات العرض في إيطاليا، نظراً لاعتقاد المسؤولين، بأنه مهين وجارح للقوة العسكرية الإيطالية[4].
ومع إصرار الناقدة ريفيرا، أحياناً، على استبدال كلمة احتلال بكلمة هجرة، حينما تضع مقاربة بين تيمة الهجرة للمخرج جيردانا، في فيلمه “عندما تكون حياً لا تستطيع أن تحجب نفسك”، وقيمة اﻻستعمار ( Tema ) أو الأفضل أن نقول الاحتلال، في فيلم (زهرات الصحراء) لــ “ماريو مونيشيلي” والذي رأت فيه أنه جاء على هيئة شفرة شعبية تقفز إلى الأعين أو على الأقل إلى أعين ذلك الذي لديه أُلفة مع تفسيرات اﻷخرية “alterità”، لذلك الآخر المختلف، أو يمكن القول إنها شفرة يجنح المخرج عن طريقها، إلى إبراز الخارجائية “l’esteriorità” للنظرة الثائرة المتمردة على الآخرين والتي هي في الواقع لا تعكس بالقدر الذي تزيف فيه الآخر في أغلب الأحيان، ضمن كليشيه أو حفرية معقدة أن تظهر في حدود قطعية، من الصعوبة رسمها أو تجسيدها، كتعقيدات امتلأ بها الفيلم محاولاً إبرازها بشكل إنساني ناعم، ليس بالضبط لمحتل مغتصب وقاتل، بل لمهاجر ناقل للحضارة والعلوم والثقافة والديموقراطية، مستعيناً بأفلام من نوع لـ بالشيدو، و<< أمريكا>> لــ إيميليو، والذان يبدوان على أنهما ينتميان إلى زمن بعيد قد يكون أفضل، أو حين يستعين المخرج مونيشيلي كذلك بالكليشيهات الاستشراقية لــ”إدوارد سعيد”، حينما يوظف الأيقونات الشرقية من خلال عائشة، الشخصية الأنثوية الوحيدة في الفيلم لكي يبرزها كمنحوتة نافرة، جميلة خاضعة ومعزولة في سجن الحجاب والقبيلة، متخفية، جذابة ومغرية، محرومة ومشتهاة، لا تستطيع سوى أن تنتهي وتفنى داخل قضبان المهزلة والتعهر.
والواقع أن ما فات على الناقدة “آنا ماريا ريفيرا” أن تطرحه في رأينا، هو أن فيلم (زهرات الصحراء) لم يأت سوى لأنه ردٌ على فيلم(عمر المختار) نفسه، فبدلاً من إبراز الحقائق التاريخية لحقبة سوداء في التاريخ الإنساني لأسوأ وأعنف احتلال شهده التاريخ نفسه، والذي اكتمل نصابه بالذبح والتشريد مع ظهور الأيديولوجيا الفاشية على سدة الحكم في إيطاليا، وهو ما تعاني منه إيطاليا نفسها إلى يومنا هذا، وبدلاً من عائشة المهانة والمغتصبة والمشنوقة في فيلم عمر المختار، نرى عائشة أُخرى وإن لم تكن نفس الشخصية التاريخية التي ظهرت في فيلم عمر المختار، نجدها هنا ابنة لرئيس قبيلة من عائلة نبيلة، يقوم بجلب أحد الأطباء لمعالجتها من مرض ألمّ بها، مستعيناً بطبيب عسكري شاب، من الجنود الطليان المرافقين للحملة العسكرية إبان الحرب العالمية الثانية، بأن يأتي هذا الطبيب الشاب ليشخص مرضها في بيتها، حيث يُظهر المخرج وبشكل زائف مدى رحمة الجنود الطليان في تلك الحقبة، متمثلة في صورة هذا الجندي الذي تقع عائشة في حبه.*
وهكذا تظهر أشياء أخرى في الفيلم، فبدلاً من أ ن يتم تشخيص الحالة المرضية ، يتحول المشهد إلى عناق وغرام، بحضور الأب الذي كان ملتفتا العى الحائط، وهو مشهد كاذب على التاريخ جملة وتفصيلاً، وكاذب أيضاً بحق الرواية التي اقتبس منها، وإن يكن الروائي ماريو توبينو قد تعرض إلى إشكالية الجنس لكنه لم يظهره بشكله الفاضح الذي أظهره به المخرج مونيشيلي، وإن يكن في السينما أحقية لوي ذراع القصة لكي تخدم هدفاً درامياً معيناً، وهو ما يسمى في العلوم السينمائية بالمعالجة، لكنها لم تطرح بشكلها الصادق، لأن توبينو، صاحب الرواية، وفي هذا المشهد بالذات، كان قد حكى بداية عن طفل مريض “بالتراكوما” التي كانت تؤدي إلى العمى في تلك الفترة، فيستعين والده، الذي كان بإمكانه أن يتحمل كل شيء، عدا أن يرى ابنه يتعذب أمامه، بأحد الأطباء
ومن مشهد تراجيدي في رواية توبينو، يتحول إلى رمانسية زائفة، عند مونيشيلي، مخرج هذا العمل، وهكذا ثمة أشياء أخرى يعجز اللسان عن شرحها. ويتضح هنا مدى المشاكل الأيديولوجية التي يعاني منها هذا المخرج الذي بلغ من العمر أرذله حينما نفذ الفيلم عن عمر يناهز التسعين عاماً ونيّف، وكان هو الآخر ضمن الجنود الطليان الذين اشتركوا في الحرب العالمية الثانية، وبدل أن يشهد على الحقبة بأمانة، نراه هنا مزيفا للحقائق، وموضحاً عن جدارة أنه لم يكن ليمتلك لشرف المحارب ولا شرف الفنان للأسف.
الحقيقة أن صورة العربي لم تظهر بشكلها الحقيقي لا في فيلم مونيشيلي و لا في رواية توبينو في بعض فصولها، بل كان كلاهما يبرز العربي كمتخلف وتابع وعبد كذلك، حتى وإن خصص هذا الروائي “توبينو” الفصل الأخير من روايته للجنود الليبيين ، حيث يستشهد فيه بعظمة هؤلاء الجنود الذين أسروا واقتيدوا غصباً للاشتراك مع الإيطاليين في هذه الحرب الكونية، مبرزاً مدى معاناتهم من حرب دارت رحاها في بلدهم ولم يكونوا مذنبين فيها ولا مشتركين، حيث يقول في روايته:
“وكان ثمة في ليبيا رجال عظماء، أبطال، طاهرون وشرفاء، لا يتركون الصديق.. ذلك الذي يموت من أجل لاشيء، وهو على معرفة بذلك، علامة صافية، دونما الحاجة إلى امتثالها، من سيكون إذاً، سوى رجل إنسان، ممتلئ بالمروءة، ومنعكس ظله على مرآة القدر الذي ينظر إليه، دونما الحاجة إلى شعلة في الظلام، كان أولئك الليبيون أبطالاً. وكان واضحاً أيضاً مالذي يستطيع أن يعطيه إنساناً أضاعوه، وسرقوا وطنه، إنسان محتقر، ومهان، مهزوم ومنكسر النفس، وممتلئ بالأحزان، لعشرين عاماً من العبودية، والوحشية والطغيان، وفوق كل ذلك، مازال ممتلئاً باللطف والرجولة والأخلاق. جندي نبيل بلا راية يدافع من أجلها، فما الذي يستحق الحديث عنه، عدا الحزن، لجندي يحارب بلا علم؟ “[5].
لا أعتقد أن هذا الكلام يحتاج إلى تفسير. و”ماريو توبينو” يعد من الروائيين البارزين، إضافة إلى عمله كطبيب نفساني اشترك هو الآخر في الحرب العالمية الثانية التي دارت رحاها في ليبيا، ووُثق من خلال روايته عديد الأحداث الهامة في تاريخ الحرب ولقد اختلف طرحه للحالة التي زيفها المخرج الإيطالي مونيشيلي ، هذا العجوز المتصابي المسكون بالماضي البغيظ والمزيف لحركة التاريخ. والواقع أن الفيلم لاقى عديد الانتقادات ليس من “ريفيرا” فقط بل من عديد الأفعلام السينمائية الإيطالية التي واجهت الفيلم بكل شجاعة، فالمخرج الذي قدّم هذا العمل الهزلي، لأنه مختص بالأفلام الهزلية، نجده يقترب مؤخراً من التيمات أو المواضيع الحساسة، فالفنان، إن وصل إلى مرتبة الفنان من خلال درجات الأحاسيس، يبقى حراً في طرحه، لكن عليه أن لا يكون جاهلاً، بمعرفة الآخر، أحاسيسه، وتقاليده، ودينه كذالك،
إن المتختصص في المجال يعرف دور السينما في التلاعب بالتاريخ، حينما تُقمع الأطروحات الأيديولوجية داخلها، فالليبيون في هذا الفيلم يظهرون كما لو أنهم مجموعة من الرعاع الخانعين، مرضى وجائعين، يطلبون المساعدة، و يجدون في تسامح الطليان معهم كل التقدير و الإعجاب نظراً ﻹنسانيتهم، بالقدر الذي أظهر فيه الألمان مثلاً، كمتعجرفين قُساة، جاهزين لتنفيذ أكثر الأوامر إجراماً. تقول “ريفيرا” :(الكل يعرف أن الشباب الإيطاليين من الجنود كانوا قد اقتيدوا غصباً إلى حرب خاسرة، ظهروا في الفيلم وكأنهم ذاهبون إليها طواعية)
والمخرج لا يتوقف عند هذا الحد بل يتجاوزه إلى تزييف أكثر الأمور حساسية وهو ما تشير له الناقدة ريفيرا أيضاً: “حين يسمع في الفيلم ذلك الصدى اللاتطابقي للــ “topoi” المتضمن للتيار الإسلامي الذي يطرحه المخرج هنا بشكل معاد للمرأة ومعاد للديمقراطية، حين يُظهر في مشاهد فيلمه، الجيش الفاشي الذي يعلن قائده صراحةً لليبيين: “أننا جئنا حاملين لكم راية الديمقراطية “[6]. وإن يكن أن هذا الفيلم المهزلة قد أضحك الكثيرين من العامة الطليان، غير أن الأقلام الواعدة من المثقفين الإيطاليين تنفي ذلك، وتتصدى له، وتعلن ذلك صراحة، لأنها تعرف أن السينما حينما تتناول التاريخ لابد لها أن تتجاهل كل الشطحات الفنية وكل الخداع والكذب الذي تستطيع أن تمارسـه، بل عليها أن تتحول إلى آلة تحاكي المنطق، والصدق والحقيقة المنسية، فالليبيون لم يكونوا أبداً همجيين محتاجين إلى من ينقل لهم حضارة، فهم من نقل الحضارة إلى الطليان، من خلال سماحتهم وأخلاقهم التي ربّاهم عليها دينهم الحنيف، فما هي الديمقراطية؟ هذا المصطلح، وإن كان وافدأ، إن لم يكن سوى التعامل بأخلاق ومثل رفيعة، كتلك التي واجه بها الليبيون أعتى القوى الدكتاتورية، وهو ما شهد به “توبينو” نفسه في روايته” الصحراء الليبية” التي أشرنا إليها آنفاً. ولعلّ الإنتاج السينمائي الإيطالي، والذي أبهر العالم، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي عانت منها إيطاليا نفسها أكثر من غيرها من الدول التي اشتركت فيها معها، بأفلام كان مخرجوها قد أرسوا قواعد ثابتة لمدارس فنية أعادت للسينما هيبتها كوسيلة قاهرة لكل ما هو معاد للإنسانية، من أيديولوجيات كاذبة ومهترئة لم تكن أكثر من وصمة عار على جبين التاريخ الإنساني، مدرسة سينمائية عريقة، كالواقعية الجديدة، التي تصدت للفاشية نفسها، وهزمتها، ووقفت إلى جانب الكادحين من العمال، وعالجت مشكلات الحرب، وما خلفته من ويلات وأمراض، وبطالة وفقر، هذه المدرسة التي كان من أهم مؤسسيها، مخرجون كبار، من أمثال روسيليني، وديسيكا، وبازوليني، وليليانا كافاني، وفيدريكو فيلليني، وغيرهم من الفنانين المعلمين المهمومين بقضايا الإنسان.
بقي أن أشير إلى أن إيطاليا، احتاجت إلى أن تمد لنا يدها من أجل الصداقة، فكتبت لنا ميثاقاً ووقعته، ووافقنا على ذلك، وهو أمر في غاية الأهمية، خصوصاً في الظروف التي يمر بها عالمنا الذي نعيشه الآن، وهي تسعى إلى معالجة جرائمها التاريخية التي ارتكبتها في حق الليبيين، فلجأت إلى الاعتذار والالتزام باحترام الآخر، احترام دينه، وتقاليده وثقافته، و احترام اختلافه.
هوامش:
[1] – Annamaria Rivera, “Il manifesto”, 14- dicembre, 2006, p 22.
[2] – Rivera, Ibid.
[3]- Andrea Semplici, Libia, Clup Guide, ed, Aggiornata, 2000, p: 389.
- [4] – Rivera, Ibid.
- * في هذا الصدد نود الإشارة إلى أننا اعتمدنا بالمثل ما أرادت البروفوسورة آنا ماريا ريفيرا رصده في التحليل على أنه لم يأت سيميائياً بالقدر الذي جاء فيه تاريخياً سيسولوجياً وهو منهج متبع في علم اجتماع السينما، أكثر منه في تحليل المشاهد واللقطات كلغة سينمائية.
- [5] ـ ماريو توبينو، الصحراء الليبية، ترجمة وتقديم د. نورالدين محمود سعيد، مخطوط غير منشور، وبالإمكان مراجعة الرواية بعنوانها الأصلي:
Mario Tobino, Il deserto della Libia, Oscar Mondadori, Milno 2001, p. 207
[6]- Rivera, Ibid.