- روضة الفارسي
في أوّل يوم ذهبت فيه للعمل في مصنع التّونة حملت معي ميدعة زرقاء وخفّا أبيض وآمالا وأحلاما مريحة، لكني ما إن عبرت قاعاته الواسعة الكئيبة الموحشة حتى انقبض قلبي وزاد في وحشتي ضجيج الآلات ورائحة التّونة التي استقبلتني كريهة منتشرة بروحي و ثيابي وكلّ جسمي فأحسست أنّ أمعائي بدأت تتلوى وشعرت على الفور بالغثيان. وما إن باشرت العمل حتّى قطعته مراراً ذهاباً وإيّاباً لإحدى حنفيات المصنع للتقيؤ. وكان حظّي العاثر قد غفل عنّي للحظات، فتنعم عليّ ولم يتعمد لفت انتباه رئيسي في العمل كي يراني على تلك الحالة. كانت القاعة تضجّ بفوران الكساكيس والطّناجر العملاقة.، وانغمست متدرّبة على قطع رؤوس التّونة التي صوّرها لي وَحمي مقزّزة ورائحتها بمنتهى الكراهة، خاصّة أنّها ممتلئة بالدّم الذّي يثقلها ويثقل روحي. كنت بعد قطع الرّؤوس، أغسلها وأقطّعها و أملّحها مع مجموعة من البنات، ثم نضعها في كساكيس عملاقة. كما تختص مجموعة أخرى بتغلية التونة الّتي غُسلت ومُلّحت، في طناجر ثم تضعها في كساكس كبيرة أيضاً. وهكذا تأتي مجموعة ومجوعات تقوم بالأعمال التي تلي ذلك.
ورغم الغثيان كنت أتمالك نفسي، فقد عقدت العزم أن أتعلّم و أشقى وأتعب. فليس أمامي حلّ غير ذلك. كان رئيسنا في العمل يشنّف أذني من حين لآخر ساخطاً صائحاً متوّعداً العاملات بتهديدات شتّى. فكنتُ أرتعب كلّما اقترب منّي وبدأ يحدّق في كيفية عملي. وما كنت أتنفّس الصّعداء إلا حين يغيب بعض الوقت.حينها أسترق النّظر إلى الفتيات والنّساء اللاّتي كنت غريبة عنهنّ، وكنّ غريبات عنّي. كان بعضهنّ يبتسمن لي في غياب الرئيس أو يوضحن لي ما لم أفهمه في العمل. وحين عاد الرئيس ليراقبنا مجدّداً قال لنا بصوت حادّ:بعد أن تكملن العمل أريد أن تنظّفن الحجرات جيّداً، لا أريد أيّ أثر لأية فضلات أو رائحة تونة. أريد أن أرى كلّ شيء يلمع! أفهمتنّ؟
أومأت العاملات برؤوسهن، وأومأت برأسي معهنّ والحال أني تعبت كثيراً وقد زاد الحمل والتّفكير بالمستقبل في همّي و إرهاقي. وفجأة اقترب منّي رئيسنا موجّهاً لي السّؤال: أنت الفتاة الجديدة؟
ـ نعم.
ـ أنت التي أرسلك بدر حمدي؟
ـ نعم.
ـ عشرات من الفتيات تتمنين أن تعملن هنا معنا ولكننا لم نقبلهن… إن شاء الله تتعلمين بسرعة وتكملين تعبئة الكساكيس بالتّونة بسرعة. و آمل ألاّ تواصلي العمل بهذه الطريقة البطيئة الكسولة.
قلت بصوت يجمع بين الانكسار والجد :
ـ سأتمرّن بإذن الله أكثر. وسأتعلّم وأكمل عملي في نفس الوقت الذي تكمل فيه الأخريات إن شاء الله.
ـ سنرى.