بقلم :: سالم أبو خزام
أقلعت الطيارة فسألها زوجها كيف هي الحقائب ؟ لا أظنك نسيتي شئيا !!
هي أجابت فقط نسيت ” سوار الذهب” !!
تلك السيدة كانت زوجة اللواء جعفر محمد النميري رئيس السودان يوم الإطاحة به!!
هي لم تنس بالخرطوم من لوازمها غير ” سوار الذهب ”
..محمد حسن سوار الذهب هو الضابط السوداني الذي انقض مع جنوده على القصر ومحطة اﻹذاعة حينئذ وسيطر على كامل الأوضاع في السودان وأعلن انتهاء فترة حكم اللواء المعزول والمطرود جعفر النميري .
بقى الأخير في القاهرة حتى مات وانتهى بلا ضجيج ؛ بينما تحول سوار الذهب للإمساك بزمام الأمور في الخرطوم وكامل التراب السوداني .
وفود كثيرة وصلت إلى الخرطوم بعد استتباب الأمن ونجاح التغيير لتهنئة الزعيم الجديد كما درجت العادة ؛ كان وفدا رفيع المستوى من ليبيا قد سافر للعاصمة الخرطوم وللقصر الجمهوري وللأغراض نفسها من أجل مقابلة الرئيس محمد سوار الذهب وتهنئته بنجاح الانقلاب والتغيير .
كان الوفد الليبي قد استمع وعرف أن الرئيس الجديد سيسلم السلطة والبلاد بعد مضي عام واحد من يوم تقلده هذا المنصب ؛ عرف الوفد وتأكد أن هذا الضابط غير مولع بالسلطة والحكم وأنه سيتنحى طواعية بعد انقضاء عام واحد فقط حيث يكون السودان قد تعافى ودارت عجلة الدولة ، وكما أعلن هذا بالسودان واستمع العالم كله لهذا النهج الجديد وهذا العربي المختلف !!
“محمد حسن سوار الذهب” عربي مختلف !!
كيف لضابط مثله أن يطيح بالديكتاتور جعفر نميري ثم يسلم الحكم والسلطة في موعد حدده بدقة؟
كانت رسالة الوفد الليبي ورجاءاته أن يستمر الرئيس محمد حسن سوار الذهب على سدة القيادة في السودان وألا يستقيل كما أعلن !!
لكن اﻷخير استقال بالفعل بعد عام من نجاح التغيير في السودان وترك سوار الذهب بزته العسكرية وعاد إلى بيته مواطنا سودانيا لا أكثر ولا أقل !!
..أطلق عليه صفة ولقب ” العربي المختلف ” لأنه استقال من منصبه وعلمنا معنى اﻹيفاء بالوعد كما علمنا لغة جديدة هي ” الاستقالة ”
سوار الذهب أعطى درسا غاية في البساطة والمسؤولية حيث قال :
أعرف كضابط سوداني وعربي شجاع أن أسقط نظاما بائسا ؛ لكنني لا أعرف مسؤولية الحكم واﻹدارة وتلك أشياء وقضايا ليست من صلب اهتماماتي فقررت أن أستقيل ؛ أستقيل لأنني لن أنجح ولا أعرف كيف أدير هذه المسؤولية ؛ وأضاف الاستقالة هنا واجب وطني للحفاظ على بلادي وحين الفشل تصبح واجبا أخلاقيا قبل أن تداهم أي متردد ” الإقالة ” !!
..دخل سوار الذهب التاريخ كأول عربي يستقيل من تلقاء نفسه فأصبح العربي المختلف !!
..وفدنا الليبي نسي سوار الذهب مرة أخرى بالخرطوم حين أقلعت بهم الطيارة من هناك تكرارا لحالة زوجة المدحور جعفر النميري .
وبات أي ليبي في المسؤولية لا يعرف معنى للاستقالة مهما صاحبه الفشل ؛تخلق المبررات وتعلق اﻹخفاقات في كل مكان إلا على كاهل المسؤول فلا .
..الجميع يتشبث بكرسيه رئيس حكومة شرقية كانت أم غربية !!
رجل في مجلس النواب أو رجل في المجلس الرئاسي ؛ وزير أو سفير ، عميد أو مدير أو حتى غفير ؛ نضال من أجل الاستمرار حفاظا على اليورو والدولار .!!
فلن يستقيل موظف
ولن يغادر أحد كرسيه ومكتبه الفاخر وأبهته الزائفة بالاستقالة فتلك خصلة لسوار الذهب !!
نظرتي :
..ذات مرة تيقنت أن عضوا بالمجلس الرئاسي أقدم على الاستقالة من موقعه وعزى ذلك وبكل شجاعة على فشله وفشل كل زملائه في تنفيذ ماتم الاتفاق عليه ؛ غادر السيد موسى الكوني مكانه وموقعه ، وبقي الآخرون في مواقعهم رغم الفشل الذريع
..أراد الكوني حين قرأ صفحة واحدة من كتاب سوار الذهب أن يعلمها لأقرانه وساسة اليوم وكذلك وفدنا الليبي القادم من الخرطوم يومئذ .
..إلا أننا لا نتعلم ولا نستوعب أي درس سوى انتظار انفجار بركان غضب الشعب ليجرف الجميع نحو الجحيم قبل شرف الاستقالة !!