مالك المانع
إن أول ما قد يواجهه المتأملون، وما يصطدم به الباحثون في طريق البحث عن مسارات الدول و الإمبراطوريات عبر التاريخ القديم و الحديث هو ضرورة التسليم بوجود حقيقة واحده دأبت على اثبات نفسها من تلقاء نفسها و على مدى العصور و مدار الدهور و حتى عهدنا الحاضر والتي تفيد بأن الدول لا تسقط بين عشية وضحاها، و أن الفشل السياسي لا يهبط من السماء، بل يُصنع على الأرض، ببطء، و بصمتٍ ، وبإصرار من الداخل أكثر من الخارج غالباً. تبدأ الحكاية الانحدار عادةً حين تفقد الدولة بوصلتها، و تنحرف مؤسساتها عن خدمة مواطنيها إلى خدمة المتنفذين فيها ؛ حين يصبح الحكم امتيازاً شخصياً لا مسؤولية وطنية.
في الغالب، لا تكون المؤامرات الخارجية هي من تُسقط الدول، بل تتكفّل النُخب الحاكمة بذلك عبر مسارات من الإهمال، وسوء الإدارة، وغياب العدالة، وتضييق الحريات.. عندها فقط يتغلغل الفساد في مفاصل الدولة، ويفقد الناس الثقة في القانون، وتغيب المحاسبة، و تبدأ الخيوط الأولى في التفكك.. عندما لا يعود المواطن يشعر أن هذه الدولة تمثِّله، بل تتحوَّل في نظره إلى كيانٍ غريب، و اطارٍ مريب، يعيش و ينمو على حسابه. تتفاقم الأمور عندما تُغلق أبواب النقد، وتُحاصر الكلمة، ويُزجّ بالمخالفين في السجون.. حين يتماهى الحاكم مع الدولة، وتتحوَّل السلطات إلى أدوات للبطش بدلاً من الإصلاح، عندما تصل الأمور إلى حد هذا المستوى، فإنَّ الشرعية تبدأ بالتآكل تدريجياً حتى لو بدا السطح هادئاً.
ومع كل أزمة اقتصادية، أو توتر اجتماعي، أو قرار فاشل، تتآكل الثقة أكثر فأكثر ، ويضيع الإحساس بالوطن الجامع. في ظل هذه الظروف، تُصبح الانقسامات العرقية والطائفية أداة هدم، لا مجرد تنوع. فحين تفشل الدولة في بناء عقد اجتماعي يضمن الحقوق والواجبات للجميع، تبدأ المكونات في البحث عن ملاذات بديلة: [ الطائفة، القبيلة، أو حتى التدخل الأجنبي ]
و عند تلك المرحلة بالتحديد لا غرابة في أن يصبح الوطن ساحة للنزاع، لا مساحة للوفاق. وسرعان ما تتحول هذه النزاعات إلى صراعات دموية تمزق النسيج الوطني. الاقتصاد لا يكون في منأى عن هذا الانحدار، بل يكون غالباً في صلبه .، فعندما تتخلى الدولة عن التخطيط، وتغيب الرؤية، ويتحول المورد الواحد إلى مصدر للإستنزاف ، تجد الدولة نفسها رهينة لتقلبات السوق أو مؤامرات السياسة الدولية..
ومع كل هزة مالية، يزداد الضغط على الدولة، وتفقد القدرة على تأمين الحد الأدنى من الخدمات لمواطنيها. وفي ظل هذه الفوضى، تُصبح الشرعية مجرد وهم و السيادة حلم .. تتدخل القوى الخارجية، تتضارب المصالح، ويتحوّل القرار الوطني إلى رهينة بيد من يدفع أكثر أو يُهدّد أكثر .. تتآكل هيبة الدولة، وتضيع بوصلتها، وتجد نفسها في قلب العاصفة، بلا مناعة داخلية، ولا قدرة على المقاومة. وهكذا تنهار الدول. لا بفعل قنبلة واحدة، بل عبر آلاف التشققات الصغيرة التي لم تُرمم، والقرارات الخاطئة التي لم تُراجع، والأصوات العاقلة التي لم تُسمع. وحين تنكسر الدولة، لا تعود كما كانت، حتى وإن استُعيدت جغرافيتها، فإن روحها تظل مفقودة .. بقلم مالك المانع














