أحمد حمدوني
كنت الوحيد من بني القرية الذي ينتقل إلى العاصمة ليغدو طالبا بأحد جامعاتها و مواطنا صالحا بين الصالحين هناك … لعلي أجد ضالتي بين دروب الحاضرة و أهلها .
ها أنا أستبدل أهل الوبر بأهل المدر تاركا خلفي الهدوء و رغد الحياة بين الأحبة واتجهت نحو العاصمة وفوضى الحياة فيها نحو الاكتظاظ والتلوث نحو الجامعات التي تصنع نخبة تدير شؤون البلاد والعباد وتتسبب في كوارث تدق أول مساميرها بنعش الوطن وتناط مسؤولية الخلاص منها بعهدة نخب الأجيال القادمة و تبقى الحياة هكذا حتي نفنى ولا يبقى من عهدنا غير مدن الإسمنت المسلح التي لا تسمع بين ثنايا شوارعها غير أصداء حكايات قوم منكوب .
أخذتُ أتسلق سُلَّم العلمِ تسَلُّقَ الواثقِ وأَرتقِي من المرحلةِ إلى الأخرى ارتقاء النجيب الفطن حتي مرت السنوات بحلوها ومرها. تخرجت أخيرا مع آخرين لم يسبق لي معرفتهم أو لقائهم قبل يوم الإعلان عن النتائج النهائية وانطلقنا في سباق البحث عن الوظيفة. قضيت سنوات إثر التخرج متسكعا بين شوارع العاصمة وأزقتها وممرات الإدارات والشركات وحتي مطاعم العاصمة وحاناتها لعلِّي أَظفَرْ بفرصة عمل و رأيت في ما يرى الرائي وصاحب البصيرة أرزاق تُقْطَعْ وحقوقٌ تُسْلَبُ وأَرغِفَة تُسْحَبُ من أفْوَاهِ الجِيَاع فقلت في نفسي سلام على بلد كان فيه للجائع لقمة…
سنوات إنقضت والحال على حاله حتي إبتسم الحظ فجأة و انتدبت بأحد الشركات سائقا. تملكني حينها شعور العائد إلى الحياة بعد زوال الأمل من مزاولتها. انطلقت في كد وجد وضربت شعور الاغتراب الذي كان يلازمني منذ أيام الصبا عرض الحائط حتي لمع نجمي و مُجِد اسمي بين زملائي وتمكنت من استرداد بعضا من حقوقي تحت مسمى الحوافز والمكافآت فعقدت العزم وخضت أحد التجارب المعقدة واجتزت مراحلها المجحفة صابرا وأدركت نفسي مجبرا على التأرجح بين مطالب أمها و وساوس ابنة خالتها وانتهى بي المطاف متزوجا فأنجبت البكر بعد فترة ثم أنجبت المؤنسة التي تؤنسه وتؤنسني ولا شئ يجدر بالذكر بعد ذلك غير ما يمكن لسائق شاحنة أَلِفَ التجول بين المدن و القرى سعيا وراء لقمة العيش أن يكتشف حين تعطلت شاحنتي خلال سفر شاق وكنت حينها على مشارف قرية . كانت محصنة ومحاطة بأسوار عالية وكأنها أحد قلاع القرون الوسطى ترجلت نحوها لعلي أجد حلا لمشكلتي وكان في جرابي مبلغا من المال وعدة ثمينة تخصني .
دقائق حتّى صرتُ على مشارف القرية وما إن دنوتُ من أسوارها حتى تراءى لي شيخا كان في سؤدُدِ الفارسِ وشموخ الوطن وأصالة الأبجر وهو يجلس على بابها…. بادرتُ بالتحية فردّ بمثلها ثم سألني عن حاجتي فقصصت على مسامعهِ ورْطتي فأبتسم وأشار بيده نحو مركز القرية وكأنه يدعوني الى دخول إليها. سرت حثيث الخطى و رحت أتنقل في باحتها جيئة و ذهابًا حتي لمحت شابا يافعا، استوقفته وطلبت العون كي يرشدني على أحد الميكانيكيين بالقرية. هز برأسه مستجيبا فسرنا هنيهة حتي بلغنا باب منزل ودعاني بالدخول فدخلت.
وجدته يحسن معاملتي و يسعى في حسن ضيافتي سعيا طيبا حتى انشرح صدري المنقبض لذلك وَ ذُلّلَتْ مخاوفي واطمأن قلبي و راح النعاس يجري في جفوني فنمت نومة هنيئة حتي أدركت الشاب يوقظني فنهضت هَرِعًا مُسْتَعْجِلاً فوجدته يطمئنني بقضاء حاجتي . سرنا نحو الشاحنة حيث كان مصلحها هناك وكان يطلب مبلغا بخسا مقابل خدمته على عكس أصحاب صنعته الذين يرهقون كاهلَ زبائنهم نفقات باهظة و مطالب لا نهاية لها. فدفعت المبلغ و رحت أتبين سلامة البضاعة خشية عبث اللصوص بها فوجدت مضيفي يبادر قائلا: اطمئن يا سيدي فلا أحد هنا يسلب الناس متاعهم ولا أحد يأخذ أكثر مما ينبغي عليه ذلك.
شكرته على حسن ضيافته واصلت طريقي وعقلي لا ينفك عن التفكير برفعة أخلاق أهل القرية وكرمهم حقا “إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا”(*).
مرت سنوات طويلة وكان ذلك آخر عهدي بالقرية و أهلها أخذتني فيها الحياة بين حلو ومر أسعى سعي الشقاء وأشقى فيها شقاء المعدم حتي كنت بعد سنوات على طريق سفر و كنت على مقربة من القرية فحدثني الحنين إليها و حثني أن أهبط أرضها فتوجهت نحوها حتى بلغتها.
حللت فيها زائرا محبا لأهلها فسرت بين دروبها هَمِيمًا ورحت بكل وجوه الغرابة مستغربا متعجبا من عجب الزمان وتقلب الأقدار إذ تقلبت وكنت ألاحظ في ما لا يلاحظ الغريب عنها قرية موشحة بثوب السواد مثقلة برَزَايَا الزمان شحة جرداء تصطك فيها الخطى بالخطى هرعا و ذعرا فما إن جلت بناظرك فيها حتى أدركت من العربدة كل لون ومن القبح كل شكل.
فقلت في نفسي : أين الوجوه التي كانت تترقرق بالأمس خيرا و تتلألأ بِشْرًا و يجري فيها الحسن سيلا دافقا فالوجوه مرايا النفوس ولا يظهر على المرء غير جوهره وإن ما بسود الوجوه غلاظ القلوب خير و رحمة. سرت في عجب مما حل بالقرية و أهلها وقادني المسير نحو سور القرية لعلي ألتقى ذلك الشيخ فأسأله وهو كبير القوم و شيخهم و أثر مكارم الأخلاق فيهم حتى بلغت السور ولم أجد غير بقايا كرسي محطم وسور منهار فجلت بنظري حتي رأيت راعيا تقدمت نحوه أسأله عن الشيخ وما حل بأرضهم فتنهد وكأن بصدره أثقال الزمان و مصائب الدنيا .
فقلت : أي نائبة حلت بالقرية؟ فقال : و أي نائبة أشد على القوم من موت نفوسهم فإن كنت تسألني عن الشيخ فقد مات و إن كنت تسألني عن القرية فقد ماتت و إن جئت باحثا عن ما كنت تدركه من الأخلاق عندهم فإني أعزيك فيهم جميعًا..
ثم أردف قائلا : حين تغادر الأخلاق أمة تضعف همتهم و تسقط ذمتهم. تداس تحت نعالهم عمائم الصدق وتسمو في أعينهم تيجان الكذب فيزهق الحق و يعلو الباطل ويمشي بينهم الجاهل بخيلاء و تحكمهم الرويبضة و تتفشى فيهم المعاصي و مفاسد الأخلاق فيتجمعون على موائد السوء و الدسائس وتسود البلايا وتكثر الفتن و يتربص الأخ بأخيه شرا فيسوء بذلك تدبيرهم و تنتشر فيهم الفاقة حتي يفنى جمعهم و تنهار بلادهم .
هاهي ذا آخر معاقل الأصالة تنهار هاوية.
قلت في نفسي : سلام على أمة كانت خير الأمم.
ما إن أتممت القصة على مسامع أحفادي الذين تحلقوا حولي كعادتهم لأحكي لهم قصة المساء حتى راحو يلعنون القرية وأهلها.
(*) من قصيدة القُبَّرة للشاعر أحمد شوقي