المثقف الحقيقي (الكبريت الأحمر)

المثقف الحقيقي (الكبريت الأحمر)

بقلم: رياض وريث

قاتل الثوريون مؤسسة الكنيسة إبان الثورة؛ على حتمية فرض اللغة الفرنسية محل اللاتينية، وأطلق الرئيس الفرنسي ميتران مشروع (الفرنسية الجميلة)؛ لترغيب النشء فيها، كما تبنت الإدارة الفرنسية في التسعينيات من القرن الماضي مشروع جاك بيتون وزير الثقافة، القاضي بحماية اللغة الفرنسية وتراثها ضد المد الجارف للإنجليزية، والذي يرتكز على ثلاثة محاور رئيسة هي: (إثراء اللغة، والالتزام باستخدام اللغة الفرنسية، والدفاع عن الفرنسية كاللغة الرسمية للجمهورية).

القانون يلزم استخدام اللغة الفرنسية في المطبوعات الحكومية الرسمية، وفي جميع الإعلانات، وأماكن العمل، وفي العقود التجارية، والمدارس التي تمولها الحكومة. كما نص على استخدام اللغة الفرنسية في جميع البرامج السمعية البصرية، بل يمنح أعضاء جمعية اللغة الفرنسية صلاحية ضبطية لإغلاق أي نشاط تجاري يُسوّق له بغير الفرنسية؛ والتحقيق مع المالك..دون الرجوع للبلديات! وبعد ألف عام من اندثارها وموتها إلا في مجتمع الحاخامات؛ يأتي ألعازر بن يهودا الصهيوني ليحيي اللغة العبرية ويساهم بنقل العلوم التطبيقية والإنسانية لها، وتلزم الحركة الصهيونية (التعليم باللغة العبرية).

كبار المفكرين والفلاسفة وأهل العقل والنقل وأهل الطبع الفطري السليم..اجتمعوا على أن اللغة ليست أداة اتصال ووسيلة للتعبير فحسب، بل هي وجهة نظر ورؤية للوجود، وذهنية مشتركة يجب حماية وتعزيزها بالسبل كافة، للذود عن وحدة المجتمع وترسيخ الهوية الجامعة، بل إن دراسات وأبحاثا في اللغويات والذكاء، تذهب إلى أن الإبداع في العلوم التطبيقية والإنسانية، والذي يمثل في حقيقته تجاوزا للقواعد وخروجا عن سلطة السائد وابتكار أطوار معرفية جديدة بما يسمى (فلسفة العلم)؛ لا يتأتى إلا بمعالجات عقلية هائلة لا تحدث إلا من خلال التفكير بلغة الإنسان “الأم”.. ولنا في الدول المتقدمة في مجالات العلم والتِّقانة شاهد إثبات على سداد هذا النظر.. لنتساءل معا ! هل ثمة تقدم في دولة من دول العالم، إلا بلغة شعبها وتراثها المعرفيّ؟

فما بال بعضنا يأتي هذا المشترك، فينكل به ويعلق عليه الخيبات والحسرات وأسباب التخلف.. دون إدراك منهم أنهم بذلك..( يدعون للصعود..ويحطمون المصعد)! الآخر فطن لذلك.. وجند له خاصته من النخب الفكرية والعلمية..وأجزل العطاء لمؤسسات البحث العلمي والمطابع ودور النشر في ضخ هذه الأفكار التي تعزز الهوية الوطنية وتعلي من شأن القاسم المشترك في المجتمعات.. ومن جهة أخرى شرع في تنفيذ مشروع (قديم جديد). وهو الدعوة للاستغناء عن العربية الفصحى والكتابة باللهجات المحلية. هذا المشروع بدأ مبكرا … فمنذ سقوط الأندلس وانتهاء الحكم الإسلامي فيها؛ شرع (القصر والكنيسة) في حملات تنصير لما تبقى من المسلمين فيها إبان محاكم التفتيش.. وجددت الدعوة حديثا على يدي المستشرق الألماني فلهم “سيبيتا” والمهندس المبشّر “ويلكوكس” مشيّد سد إسوان، ومترجم الإنجيل للعامية المصرية، والذي عزا تخلف الأمة لتمسكها باللغة العربية. وقد لاقت هذه المقولة آذانا مصغية في ذلك الوقت..إلا أنه (كان في القوم القعقاع).. فجوبهت هذه الدعوة وأُسكت مردودها. أمة يغيب عن أفرادها الوعي بقضاياها المصيرية ويضمحل في قلوبهم الهم المعرفي، ويغفل الفرد فيها ولا أقول المثقف، الذي أصبح كبريتا أحمرا لا يكاد يرى عن هذه القيم الرساليّة، وهو يتوخى مدخلات معارفه وأولويات اطلاعه..مكتفيا بنتاج الغرب ومتأثرا بالعُقد التي نشأت ضمن سيرورة التجربة الغربية ذاتها، واستنساخها وتوريطنا فيها عنوة، منزويا في الوقت ذاته عن الاطلاع على التراث والفكر والأدب العربي والإسلامي؛ هي في كرب عظيم!

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :