أصـــــوات

أصـــــوات

بقلم :: عوض الشاعري 
بعد معركة غير متكافئة خرج منها بذيل نصف مقطوع ومؤخرة دامية ، قرر أن يرحل عن قطيع الكلاب ، ويترك لهم القرية بما رحبت .
وضع شطر ذيله النازف بين فخذيه مستجمعا بقايا عزيمته الخائرة ، ونشأ يركض كيفما اتفق .. استمر في العدو ، ترفعه هضاب وتهبط به سهول .. وحيدا في البراري ، لا يعرف وجهته بالتحديد ، ولا يدري كم قطع من المسافات .. الصحراء تحاصره من كل الاتجاهات ، والشمس تلهب جسده المنهك بسياط من لهيب .. والحصى يكوي أرجله بمياسم مسنونة كالسفافيد .
على غير هدى ركض .. وركض .. وظل يركض ، والأفق يمتد كأن لانهاية له ، وآثار الهزيمة تتبع خطاه المجللة بالذل والهوان كحارس غير أمين .. جال بصره في الفراغ الشاسع فلمح خيالات وأطلال .. تحامل على نزفه متجهاً صوب ما رأى ، والألم والأمل خصمان قويان يتصارعان على حلبة مخه .
شاكسه السراب ، غالب غائلة الظمأ ، تدلى لسانه من أثر اللهاث ، فاندلق لعابه الدبق يسيل على الأرض ، مختلطا ً بذرات الرمل وبقايا الأعشاب الهشة فيرسم خيوطا ً متعرجة سرعان ما تمحوها خطاه .
في رحلة الاقتراب ، تناهى إلى سمعه صوت مشؤوم :
– غاق … غاق … غاق
– بدأ يقترب والوجل إسار أبدي يدعوه للتمهل .. والفضول آفة جهلى تغذ خطواته إلى الأمام .. عن كثب .. شاهد أسرابا ً من الغربان تقتات جيفة جمل نافق .. أيقن بالهلاك ، ودب في جسده المكلوم ذعر شديد .. حاول الرجوع ، خانته فرائصه ، فأقعى مشدوها ً كمن ينتظر مصيره المحتوم .. تذكر هزيمته .. إذلاله .. وهنه .. سالت دموعه فأجهش بالنباح .. فزعت الأسراب .. طارت في الأعالي .. حامت .. اقتربت .. صنعت من أجسادها غيمة حالكة ظللت جسده .. أفزعه حفيف الأجنحة .. خفقانها .. سوادها .. أحس بالبرد يضرب عظامه .. انتابته قشعريرة مفاجئة ، فأغمض عينيه متابعا ً نوبة الشجن كشاعر طريد يرثى اغترابه .. ظل ينوح والأسراب السوداء تحوم فوق رأسه في تشكيل دوراني مهيب … أحس بأن الأرض تميد تحت قدميه ، وضرب رأسه دوار حاد ، وهو يحدج المناقير والمخالب ، مترقبا ً النهاية .. استنفر كل مخزون النواح محركا ً رأسه ذات اليمين ، وذات الشمال ، والنعيق يزداد حدة وضجيجا ً كمعزوفة أسطورية ملعونة .. استجمع قوته .. ووقف ناصبا ً ذيله المقطوع ، وصاح صيحة رددتها الصحراء :
(………………………
تراجعت الغربان .. تحلقت حول غراب مسن للحظات .. ثم راحت تنعق من جديد بأصوات منغمة
– غاق … غاق …. غاق .. غـــاق
هاله ما سمع .. فانتصبت أذناه كرادار يستجلي النبرات :
(إنهم ينعقون .. لازالوا ينعقون .. لازالت المناقير تردد ما يشبه النشيد ، أو لعلها تلهج بالدعاء ) .. هكذا ردد في أعماقه :
– لكن كيف ؟
– وأنا الطريد الفار
– القادم من المجهول .. الزاحف نحو هذا الفراغ المقيت
كان المشهد عصيا ً على التصديق .. وصدى الأصوات يجلجل في الآفاق :
– غاق … غاق …. غاق … غــاق
– نازعته رغبة هستيرية في الركض ، وأخرى جارفة في البكاء من جديد .. تمالك نفسه ، عندما عن له خاطر مباغت ، فانتفض كمن يستفيق من كابوس ثقيل ، وراح يتبختر أمام الأسراب التي حطت على مقربة منه .. محركا ً شطر ذيله المسلوخ في خيلاء وغرور .. مشيرا ً إلى الغراب العجوز بتنظيم الصفوف ، والاستعداد لاقتفاء أثره عائدين باتجاه القرية من جديد.
طرابلس: 5-5-2005م

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :