أطفال بلا غد

أطفال بلا غد

مريم الترك

          لم أكن أتخيل أبدا أنّ زُهرة ذات الثمانية أعوام – في ما قدّرت – سوف تقف على باب بيتي ذاك الصباح البارد، مرتعشة كورقة خريف وهي ترنو إليّ بعينين سوداوين ووجه شاحب:

         –         جيت آخذ كيس الزبالة.

لجمتني الدهشة وأنا أتفحّص جسدها الهزيل في فستان أخضر مكرمش، كانت يقظة الحواس تنظر إليّ في ثقة لا تتوافق وعمرها، بدا شعرها الأشعث على وجه متجهّم مسلوب الطفولة، سألتُ:

         –         طيّب وين البابا؟

         –         راح ع السوق وأرسلتني ماما حتى ما نتأخر عليكن.. 

كدت أقول، لكنّ كيس القمامة أكبر حجمًا منك، يا له من جنون كيف لهذا الجسد الهزيل أن يحمل أكثر من وزنه؟..

           ظلّت تبحلق فيّ، يعتصرها الانتظار والتردّد، وظللتُ أتأمل الموقف بعين متسائلة.. ما الذي يحدثُ تحديدًا؟ فالبنت صغيرة، عمرها لا ينبئ عمّا تضطلع به من مسؤوليات، خصوصا لو كان ما تقوم به هو جمع النفايات من أمام أبواب البيوت، فوق هذا هي في سنّ التمدرس؛ وسألتُ:

          –        طيّب بتحبي تفوتي ع المدرسة؟

من وراء نظرة حادّة قالت:

          –        ما بعرف.. وين الكيس؟..      

يا له من غبن، كيف جرى الأمر؟ لن أسلّمه لها، لو فعلتُ فكأني أتواطأ مع والدها من حيث لا أدري، إنّ مجرّد تحميلها هذا العبء هو قبول بهكذا وضع وإقرار بما يفعله الوالد بابنته؛ ووجدتني أقول:

           –       طيّب ليش ما اجت أمك؟

           –        ماما مشغولة.

والصغيرة، قلت لنفسي: ما لها ولهذا العمل؟ أيعلم الآباء مقدار الشقاء الذي يورّثونه لأبنائهم؟ كيف طاوعته نفسه بالزجّ بها في ما ليس لها فيه، ولا طاقة لها عليه؟ استنزفتني الأسئلة تباعا ونحن نتواجه على باب الشقّة، هي تبحلق فيّ بحلق مالح وسؤال المستعجل الذي يريد أن ينهي ما كلّف به، وأنا أتفرّس وجهها الكالح الصغير وجسدها الهزيل الذي بدا كقصبة تهزها رياح الوادي، لم نخلص إلى حلّ يرضينا، فقط انتظارنا المشوب بالقلق وعواصف الحزن، رغم كل هذا فأنا لم أغيّب عن ذهني ما ينتظرها من أكياس أخرى موزعة على أبواب الشقق..

           البنت صغيرة.. ما زلتُ أهمس لنفسي، هي ليست حمل هذه البهدلة، بإمكانها أن تلتحق بالمدرسة ككل أطفال جيلها، لن أمعن في إذلالها أكثر بكيس قمامتي، رغم وجهها الحازم ونظرتها الشرسة المتحفّزة فإنّ في نفسي لهفة لضمّها..

        –        ما عندك زبالة؟

         يا له من صباح بارد، يتشظّى وقته بين لهفتها لإتمام ما كُلّفت به وبين خوفي عليها، كيف أنجو مما تقدّره اللحظات بيننا؟.. لقد انتظرتْ بما يكفي، ومن المنطق أن أخلص بها إلى جواب يغنيها عن وقفتها الفارغة هذه، يجب أن تغادر الآن، ووجدتني أهمس:

        –        لا، ما في..

وقبل أن تستدير لتغادر، استوقفتها:

           –          في شيء تاني؟

           –          أي انطريني شوي..

فتّشتُ عمّا يُسكتُ عواء جسدها من البرد، وقعت نظرتي على معطف ابنتي منال، أومأت لها أن تدخل، تجاوزت العتبة بقليل، وقفت مترددة وجلة، قلتُ:

          –        اقتربي زُهرة..

خطوة أخرى، صارت داخل الردهة، في لحظة كنتُ أُحكم إغلاق المعطف حول النحيل:

          –         هلأ مش راح تبردي..

انحنت تحاول تقبيل يدي التي سحبتها سريعا، وأنا أقول:

          –        احترسي من الطريق..

          خرجت وهي تسترق النظر إلى المعطف على جسدها، كانت مزهوة إلى أبعد حدّ، نزلت السلالم الغرانيتية بخفّة ماعز جبلي، لم يوهن عزيمتها ثقل ما تحمل ولا صدّتها الرياح الشتوية التي راحت تزأر بوحشية، فيما هي تختفي في الزقاق.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :