“الرينو12” تتكلم

“الرينو12” تتكلم

  • عائشة الاصفر

لا أحد يستطيع النوم مع إيقاع جارتنا الشابة “ريلة” وهي تدقُّ بتوتر وتواتر منتظم ظهر البساط المسكين كل صباح، فعلٌ هو من باب الاستمتاع النفسي أكثر من الحاجة إليه كما فضفضتْ لي، يطير النوم، فالحال صيف الـ 72، وضوء الصباح يسرع، أقتحمُ “الرينو12″، ألعبُ بخطوات القيادة في السيارة النائمة أفكك مفاصلها، أستجديها مرة، وأمارس عليها ساديتي مرات، فلكل منا بساطه، وكأنني سمعت لها صريرا في أذني، أخبرتهم أن “الرينو” كلمتني! لكني نسيت قولها ” كل الأقفال جبانة”. بقيت أمي تصرعلى بيع الحديدة الممسوسة، طمئنها والدي ـ كابوس ـ وبقي ينتظر من يحرك به “الرينو”،فعندما اشترى لنا المزرعة، اضطر لاقتناء سيارة مع جهله قيادتها، يتبادل أبناء عمومتي نقله إليها كل عصر، والعودة به بعد المغيب، في كل مرة أرافقه لا تفتأ عيناي تتراقص بين حركات قريبي، يديه وقدميه، ونظرات والدي السارحة بعيدا.. كل عصر ينتظر والدي من يوصله، يقترب بهدوئه المعروف، يتحسس أبوابها، يفتح بابا ويعيد قفله، يمسح مقعده، يتنهد داخله بصمت، وأبلع غصة. بقي والدي ينتظر، وبقيتُ استمع لجارتنا “ريلة”، طُلقت “ريلة” الجميلة التي تعاني من عاهة كلامية بعد زواجها بستة أشهر، وتعول أمها وولدها ذا العامين.. تحلم فقط بمحو الأمية تفك لسانها فالزواج بعيد.. وبقي والدي ينتظر ويحلم بسائق، وبقيت أتحسس الأقفال، في أبوابنا وأبواب الجيران وأدراج المكاتب وفي عنق الكلب، كل عصر ينتظر، إلى أن كان مساء علا الضيق ملامح وجهه، إثر غياب من يحرك السيارة العزباء؟ وبين توجس وحذر وخيفة رميتُ له جملة مرتبكة سريعة (نعرف نسوقها، خلينا نمشوا)، لم أتوقع أن يقول لي بين المدح والذم ” مش انتي!؟ اديريييها” وشاح بنظره بعيدا، تذللتُ إليه، لنجربْ، ولو فشلتُ ها أنت معي، ولن نضيع، فمزرعتنا قريبة من الطريق العام ويسكنها العامل. وافق! مزرعتنا غرب مطار سبها بحوالي ثلاثة عشر كيلو متر باتجاه اوباري، الطريق حيوي، وجْهَة المزارعين، والتجار، والأهالي، قفزتْ بي “الرينو12″ قفزتين اثنتين وعصتْني، ثم حرنتْ، وفي الثالثة أرختْ دواليبها ومشتْ، لكن نبضي ظل متوقفا، و”المارشة” بقيتْ أولى حتى ارتفع صوت المحرك عاليا محدثا نشازا، والتفاتة من والدي تسأل عن السبب الذي لا أعرف اجابته، لكن ما إن انتقلتُ إلى الخطوة التالية وبدلتُ السرعة بتحريك “المارشة”، حتى ارتاح صوت “الرينو”، ووالدي، وقلبي، أمي واخوتي في المقعد الخلفي يدارون خوفهم بالاستهزاء، لا شيء يرعبني مثل الشاحنات، لم أفكر في الاجتياز إطلاقا، وكلما لاحتْ شاحنة من بعيد اتدحرج يمينا وأكبس الكابح حتى تصطدم جبهة والدي بالزجاج، يزفر وأتابع. وبين توقف وآخر، ووصول مرتقب، لاحت مزرعتنا كأنها الجنة، أعلو وأهبط وسط هز وخض في مدخلها الترابي، وتعلو الابتسامة وجه أبي، وأموت أنا من الضحك وهو يقول لي مشجعا ” إنتِ صَقْرَه”!.. فرح شارعنا بعودتنا من المزرعة سالمين، هنأتْ الجارات أمي.. وصفق لي حتى أولاد جيراننا الشرسون، وماءت نعجات الخالة “شعلة” بفرح… وبكتْ “ريلة” وأنا أعدها أن أول مشوار لمقر محو الأمية. كبرتُ.. كل مساء أوصلهم إلى المزرعة، وأعود وحدي إلى المطار تنتظرني طائرتي الصغيرة في المدرج تاركة خلفي “الرينو” في موقف السيارات. قبل أن أصفق بابها همستني: لا تخافي.. “ندرك الله بالعقل ونصل إليه بالقلب”. كبرتُ.. يسألني مراقب البرج: أينك؟ أنتِ خارج مرمى المراقبة! أطمئنه بأني قريبة جدا.. وأني فوق “مشروع 2” غرب المطار. لحظتها كنتُ أحوم منخفضة فوق مزرعتنا، إخوتي وأمي وأبي يلوحون إليّ وهم يتقافزون، ولأنخفض أكثر وأقترب منهم عليّ أن أوسع الدائرة واجعلهم داخلها، بالغتُ الانخفاض، كدتُ أصدم عمود الكهرباء، خفتُ جدا سارعت بالارتفاع، فرحتي بنجاتي من فضيحة كذب على المراقب أكبر من نجاتي من الموت. وشوشتني “الرينو”: “إن الله يعاقبنا بطريقته!”كبرت.. تعتلي “ريلة” بساط الريح، وتشترك في دورة التريكو بجمعية النهضة. كبرتُ.. حلّ المغيب، وحدي سأعود بأبي إلا هي “الرينو”، أسرُّ لها بالكثير وتُوحي، همستْ: احفظيني.. “إذا أذعنا الكرامات رحلتْ”. تدفن الشمس ألوانها بغنج وراء أفق الرمل وعلى مهل، ملوِّحة بابتسامة مُغادَرة للمزَارع التي تؤنس جانبي الطريق، وأخرى كنتُ أراها من فوق تتناثر بقعا خضراء تنام على بساط الرمل، وحدي في خط العودة بأبي، سرعة عالية تحت تأثير الأجنحة، أبتسم كل مغيب لجدارية يمين الطريق تقول لي: ( أبي لا تسرع.. نحن في انتظارك)@

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :