إشكالية السائد وتأسيس الوعي البديل (دراسة تنظيرية في كتاب “إسلام ضد الإسلام” للصادق النيهوم (6)

إشكالية السائد وتأسيس الوعي البديل (دراسة تنظيرية في كتاب “إسلام ضد الإسلام” للصادق النيهوم (6)

    بقلم :: علي عقيل الحمروني 

كشف المفاهيم المؤسِّسَة

الأخطاء .. والانعكاسات

 لقد تأسّست خلفية الكاتب والمفاهيمية الأكثر وضوحاً وتحديداً على تعديل الميزان المائل المنحرف الذي لحق بالتصور السائد في العلاقة القائمة ما بين الخالق والمخاليق ، بشكل جذري لا يقبل الترقيع ولا المصالحة ، وذلك انطلاقاً من تصحيح التصور المنحول عن الله تعالى ، عن طريق رؤيته عز وجل من منظور الكمال والغنى المطلق ، عوضاً عن رؤيته من منظور بعض صفاته وجعلها بمثابة الصورة الكاملة للذات الإلهية كما هو واقع في التصور الرائج عن الإله في الهيكل الديني التقليدي ، ومن ثم الاتجاه إلى تصحيح الانحراف السائد في فهم طبيعة العلاقة بين الخالق والمخلوق . ولقد انطلق في تأسيس عمله هذا على قاعدة علمية تعتمد التمايز الصارم ما بين التصورات والحقائق التي تم تحصيلها عن طريق استخدام المقابلة المنطقية ما بين الشيء وضده ولازمه المنطقي المترتب على هذه المقابلة وبين الحقائق والتصورات المتحصلة عن طريق المقابلة المسقطة .

      فالأولى حقائق وتصورات منطقية ومباشرة ، بالتالي فهي يقينية بالضرورة كمقابلتنا بين مفهوم الكمال المطلق للإله وما يتضمنه من غنى وقدرة وقهر وجبروت وقوة … ومفهوم النقص البشري وما يتضمنه من عجز واحتياج وضعف وانقهار وصغار… الخ ، فهي مقابلة منطقية بديهية وأولية ، وما يلزم عنها من حقائق وتصورات هي أيضاً مباشرة ومنطقية ، كقولنا بعدم قدرة المخلوق على معاجزة الخالق ، أو عدم إمكانه الاستغناء عنه مثلاً ، فهذه تصورات وحقائق تم تحصيلها باستخدام المقابلة المنطقية .

      أما الثانية فقد تحصلت عن طريق المقابلة المسقطة وهي مقابلة مفتعلة متوهمة ، تدعي التطابق ما بينها وبين المقابلة المنطقية حيث تقدم نفسها كلازم منطقي ومباشر للمقابلة المنطقية في الوقت الذي تكون فيه مجرد ممارسة إسقاطية لتصورات وحقائق قبلية كان العقل قد اختزنها في أعماقه كبنية تكوينية بفعل الثقافة التاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية… الخ ، أو كقناعة راسخة الجذور ، حتى إنه ليخالها محصلة ضرورية لا غبش فيها ، رغم كونها قد فُرضِت بفعل تداعيات ذهنية محضة .

      كأن يرتب العقل على حقيقة القهر والغلبة الإلهية اعتبار أن المخلوق خالي الوفاض من أي حق أمام الخالق ! أو أن يرتب على حقيقة الاحتجاب الإلهي المطلق اعتبار أن الالتفات للمعاني والمقاصد الواضحة والمحددة في التشريعات ضرب من ضروب الخروج عن مقتضى التسليم بالكمال الإلهي ، أو الشك في مطلق العلم والحكمة .. وهكذا.

      وانطلاقاً من هذا التمايز ومن خلفيته المنهجية كان كاتبنا يرفض بشكل قاطع كل ما ترتب على هذا الخلط بين الأمرين من حقائق وتصورات .. كانت قد ألحقت الضرر والعطب بكل شيء بدءًا بِالكمال الإلهي وانتهاءً بمفهوم الدين ووظيفته مروراً بما فرضته من تصورات ضبابية ورجراجة جعلت من تحديد العلاقة الصارمة بين الخالق والمخلوق أمراً بعيد المنال ، بل وجعلته عرضة للتلاعب والتخريب ، الأمر الذي أفضى إلى آثار مدمرة على مستوى البناء الديني برمته!!

      فكان أن اختار الكاتب بالفعل أن يمارس عمله الفكري بتوجيه من هذا الهاجس ، ولذا فقد اختار أيضاً أن يقصر عمله هذا على المفاهيم المؤسسة التي يرى أنها قد اختزلت في جوفها أشد الأعطاب وأخطرها ، والتي يتمدد أثرها وتأثيرها على شتى الميادين ذات العلاقة بالمفاهيم الدينية . ويمكننا أن نؤكد أن ” المفاهيم المؤسسة ” التي اشتغل عليها الكاتب , والتي أشرنا إليها آنفاً  تكمن في ثلاث نقاط رئيسة من الأفكار :

الأولى : فكرة القهر والغلبة والهيمنة والسلطان المطلق :

       كمبدأ يتأسس عليه التصور السائد عن الله تعالى ، أي كصفات معينة تختزل في جوفها كافة صفات الكمال المطلق ، بشكل شبه كامل .

      وتكمن خطورة هذا التصور السائد عن الله سبحانه وتعالى أنه قد تم تمريره عبر قنوات تتمتع بقدرة هائلة للغاية على امتصاص أي تساؤل يمكن أن يطرحه العقل الإنساني  بدهشٍ من فطرته الطبيعية في وجه هذا التصور المقدَّم على أنه التصور الصحيح عن الله سبحانه ونعني بذلك قنوات الثقافة التاريخية باعتبار ما تمتلكه من نفوذ شبه حاسم في التكوين العقلي والنفسي والانفعالي ، مما يقلل بالفعل أية فرصة للنجاح والإفلات من جاذبيتها الهائلة والقوية التي تعيق كافة الإمكانات الطبيعية وتعطلها بشكل كبير ، إلاّ بمجهود استثنائي لا يتوافر إلاّ للقليل من الناس .

      وباعتبار أن هذه الثقافة قد عكست معايير ومبادئ وقيم تتلاءم تماماً مع هذا التصور المقدم  فإنه من الطبيعي جداً أن يجد الإنسان العربي – المنتمي للثقافة العربية بآفاقها التاريخية – نفسه منسجماً مع كل التناقضات الكامنة في جوف هذا المفهوم ، وذلك لأن هذا الانسجام إنما هو استجابة للظروف والتضاريس المكوِّنة لوعيه التاريخي ، مما جعل هذا التصور المشوّه – عن الإله – آلة للدفاع عن السائد السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي على حساب الدفاع عن حق الإنسان في أن يعيش حياة كريمة وسعيدة وفاضلة . ولقد أفضى اعتلال هذا التصور الذي يغيب الكمال الإلهي بما يشتمل عليه من جُماع صفاته عز وجل ويختزلها في جوف بعض هذه الصفات ، أفضى إلى شلل وعطالة بقية الصفات لا من حيث حضورها على مستوى الخطاب بطبيعة الحال ، إنما على مستوى السلطة الفعلية التي توجه آفاق التصور الرازح تحت ثقل معطيات العقل العربي التاريخي .

      ففكرة القهر والهيمنة والسلطان المطلق كصفات حاضرة على مستوى الوعي التكويني للعقل العربي ، تعد هي الفكرة التي تتمتع بكافة الصلاحيات لتأسيس تصورنا عن الله سبحانه خلافاً لفكرة العدل والكرم والرحمة والعفو .. أو فكرة الغنى والصبر مثلاً ، فإنها كثيراً ما تكون هامشية  لا تحظى بأي نفوذ فعلي يمكنه أن يصوغ تصوراتنا الدينية . وهذا ما يبرر الطفوح الواضح لفكرة الاستسلام والخضوع والانقياد والطاعة المطلقة كأساس يتحكم في كل المفاهيم المحورية في البناء الديني السائد .

فحقيقة الدين هي إفراده عز وجل بالعبادة وحده .. ونبذ عبادة ما سواه .

والعبـــادة هي الاسم الجامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال الظاهرة والباطنة وحكمة الدين أي المعنى الذي أُنزل الدين لأجله .. وهو إخراج المكلف من داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد له اضطراراً ، وهكذا ….

يتبع 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :