إشكالية السائد وتأسيس الوعي البديل (دراسة تنظيرية في كتاب “إسلام ضد الإسلام” للصادق النيهوم (7)

إشكالية السائد وتأسيس الوعي البديل (دراسة تنظيرية في كتاب “إسلام ضد الإسلام” للصادق النيهوم (7)

بقلم :: علي عقيل الحمروني

فالسلطان والقهر حاضران في كل شيء وبقوة حاسمة لا يمكن تغطيتها بحال ، عن طريق استحضار فكرة العدل والرحمة وغيرها على مستوى الخطاب كما سنرى في المفاهيم اللاحقة ، ومنها ما سنعرضه عند التعرض لتأسيس العلاقة بين الخالق والمخلوق على هذه الفكرة بالذات .

الثانية : فكرة الهيمنة والسلطان المطلق  :

      كمبدأ تتأسس عليه العلاقة بين الله سبحانه وتعالى وعباده ، وهو مبدأ يوصف في الخطاب الديني  بِ ” حجيّة الملك ” .. وهي التي تفضي إلى اعتبار أن للخالق الحق في أن يفعل بخلقه ما يشاء ، وكما يشاء ، دون أن يكون لزاماً عليه في حقهم شيء على الإطلاق .. سواء أعذبهم أم أنعم عليهم أم أهانهم أم أكرمهم .. بمعنى أنه ليس للعبد في نفسه مع ربه أي حق ، ولا حجة له عليه ولا يجب عليه أن يطعمه أو يسقيه ولا أن يكرمه

(1)  .

      بل إن عذب أهل السماوات والأرض لكان له ذلك بحق الملك ” قل فلله الحجة البالغة ” حسبما هو معروف في الخطاب الديني السائد .

      إنه منطق السلطان الحاسم والمطلق ، الذي لا مكان فيه للتعاطي والمداولة والاستئناف وهذا الحسم هو العمود الفقري الذي يؤسس هذه العلاقة القهرية ، حيث يسود منطقه الخاص على كل مساحات العلاقة ، لتبدو رهينة بشكل تام بميزان القوة وحده الذي لا مكان فيه لشيء سوى للقوة !

      فالنظر والمداولة وتحديد الخيارات أو تقرير المصالح والمنافع والاعتبارات ، كل ذلك كائن للأقوى نفوذاً والأشد تأثيراً ، بغض النظر عن أية قيم أو اعتبارات أخرى .

      إذ إنه لا اعتبارات أخرى على الإطلاق ، بحيث تتقلص جميع الخيارات أمام الطرف الأضعف ، وتنسد أمامه جميع المضائق والسبل إلا سبيل الانسحاق والانهزام والتخلي عما يمكن أن يكون تعبيراً عن الشعور بالاستحقاق الخاص لأي شيء ، والإطاحة بأي شيء من شأنه أن يستوجب الاعتراف بأهليته ( أي الأضعف ) لاكتساب أي حق مهما كان تافهاً أو صغيراً إلاّ ما أعطاه له الطرف الآخر  تفضلاً وتكرماً !!

      فهي علاقة مسقطة بشكل مطلق ، حيث الحضور والفاعلية فيها لطرف واحد لا غير ، أما الطرف الآخر فإنما هو مجرد صدى أو ” كومبارس ” ليس إلاّ .

الثالثة: فكرة الاحتجاب والانقياد المطلق :

      كمبدأ يقوم عليه أسلوب التواصل ما بين الله وعباده في إطار الخطاب ، إن فكرة الاحتجاب كمفهوم إنما تعني عدم جريان تصرفات الخالق الشرعية على مقتضى قواعد أو مظنات يصح جعلها مسلكاً وموطئاً للمدارك والأفهام بشكل يلائم معطيات الموضوع ومنطق الحق والمصلحة ، كما يبديها لنا العقل من مدونة  الحياة .

      ويؤسس هذه الفكرة في الثقافة الدينية مبدآن أساسيان هما :

 1 . امتناع الله عز وجل المطلق ومن كل وجه .. عن أن يُتَصَرَّفَ في سلطانه إلاّ بما يشاء وكيفما يشاء ، وبإطلاق حيث لا حجة عليه من أية جهة أخرى .

 امتناع الله عز وجل المطلق عن أن يُحاط بمقاصد تصرفه وتدبيره ، لامتناعه عن أن يُحاط بعلمه وحكمته .

وقد عكست هذه الفكرة بمبدأيها هذين حقيقتين ذواتي شأن عظيم فيما يتعلق بالانحراف الذي تكلم عنه كاتبنا هما :

( الأولى ) : انتقاء العلاقة المنطقية بين ما يبدو للعقل أنه مبرر الحكم الشرعي ومظنته وبين كونه كذلك في الحقيقة .

( الثانية ) : انتفاء أية ضرورة عقدية أو منطقية تفرض مراعاة الله عز وجل للمعاني والمصالح التي تبديها لنا متطلبات الحياة في تصرفاته الشرعية .

وهاتان الحقيقتان الأساس اللتان احتواهما المفهوم سوف تشكلان سبباً لتضمنه عناصر عطالته بامتياز – حسبما عرفنا من طرح الكاتب – .

      وهذا لن يبدو لنا واضحاً إذا نحن لم نقم بقراءته على ضوء اعتبار أن الدين أداة ” ثورية ” تهدف إلى التغيير الجوهري والحاسم لكل الظروف والعوامل التي تعيق مسيرة الإنسان تجاه تحقيق تقدمه وازدهاره وعيشه الحياة الكريمة السعيدة الفاضلة . بمعنى أن الدين يأخذ على عاتقه وظيفة تفعيل الإنسان لمواجهة مشكلاته الوجودية بنقض جميع الشروط المحبطة لتفسيرها وفهمها وتغيير واقعها . وهذا أيضاً سوف لن يتم أبداً فيما لو تصورنا عدم اتجاه الدين إلى بلورة وعي الإنسان وإقحامه في عمق قضاياه ومشكلاته وإقناعه بضرورة تغيير واقعه والبحث عن وسائل العمل وأساليبه بطرق واقعية عملية تراعي سنن التغيير ومتطلباته .

      ولذا فإن الدين كان قد توجه منذ الأساس إلى تكثيف تصورات الإنسان وقواه الانفعالية لأجل تحرير وعيه من كل العوائق والقيود المحبطة وجعله العامل الحاسم والشرط الضروري للرقي والتقدم ليكون عمله مناطاً بمسؤولياته التامة والمباشرة على مصيره دون أي اغتيال أو مصادرة  لفكره ووعيه . لأجل ذلك فقد اتجه الدين فعلياً إلى تكسير الهيبة المعرفية للكهنة والعرافين والحكماء ، بقصد التخلص من سطوتهم الأسطورية على الوعي الإنساني  بادعاء احتكار الحكمة والانفراد بحيازة المعرفة دونما رفض أو مساءلة .

      إنه إذن تحرير للوعي الإنساني من كافة القيود المطيحة بأهلية المشاركة والتفاعل في حقول  الخلق والإبداع 

      ولكن كيف يمكننا أن نتصور تحقق رسالة الدين على هذا الصعيد في ضوء هذا التكريس لمبدأ الاحتجاب ، الذي يفتح الباب وسيعاً لفقهاء السلاطين ، أو كهنة السياسة ، أو حماة الإقطاع!؟

      أليس ذلك مدخلاً عظيماً لزرعة أية مفاهيم معيقة لكرامة الإنسان ، أو مطيحة بأسباب تقدمه ونمائه وازدهاره ، أو مخربة لعوامل انطلاقه وفاعليته ، عن طريق ادعاء الحكمة ومعرفة الطلاسم والأسرار ، أو بذر الأفهام التي يعجز العقل عن قبولها أو تفهمها ؟! إن ذلك ما يرفضه الكاتب الراحل جملة وتفصيـلاً !

      وأما فكرة الانقياد الكامل كمبدأ في التواصل ، فإنما تعني جريان تصرفات الخالق الشرعية على مقتضى الإسقاط المحض ، أي التصرف الذي لا يتقيد بضرورة قد يتطلبها المرور بالواقع الملموس لتحقيق نتائج فيه ، ووفق مبادئه ومعاييره ، وبشكل يراعي ضرورة تحقيق التوازن الذي يحفظ تحقيق المصالح بناءً على قواعد يمكن استيعابها ومتابعتها من معطيات الحياة الموضوعية .. إنه مبدأ يوجه الحركة وفق المعادل ألما ورائي لمبررات الأحكام أو نتائجها ومحصلاتها .

      مما يجعل الجهد البشرى المتحرك في إطار الدين إنما هو قائم على معادل غيـبي في الأساس ، لا على مبدأ المصلحة المتحققة في الواقع الملموس ، ويؤسس هذه الفكرة مبدأ أساس يُعنى بإدارة القصد الأساسي من إنزال الشريعة كأداة للتواصل بين الخالق والمخلوق على إخراج الإنسان من داعية هواه وتعبيده لله عز وجل وحده انطلاقاً من فكرة الهيمنة والسلطان المطلق

      مما يجعل المنطلق الذي يؤسس النظر إلى الشريعة مبنياً على التعبد المحض والانقياد الخالص كأساس لتحقيق عِلّيّة الوجود الإنساني ” وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون ” الأمر الذي يجعل البحث عن المصالح والمنافع أمراً هامشياً وثانوياً لا يحظى بوافر الاهتمام والالتفات مما يجعل من رسالة الدين – حسب الكاتب – رسالة مفارقة للواقع غير منطلقة من قضاياه وهمومه ولا مما يكتنفه من عوائق وعقبات ، ولا ما يحركه من هواجس وتفاعلات ، ليصير الدين حينئذٍ بعيداً عن الانتظام في قضايا المجتمع بل وعاملاً معيقاً لصياغة الحياة والتقدم فيها فيما لو انتظمت أمور الناس وفقاً لتعاليمه ، وإن كان سيكون أداة جيدة في أيدي السحرة ، وأصحاب الإقطاع ليمتلكوا به النفوس والأجساد معاً .

      ويمكننا أن نلخّص أخطر الانعكاسات التي كرستها هذه الأفكار وما انبنى عليها من تصورات ومفاهيم ، في نقاط ثلاث رئيسة حسب فهمنا لفكرة الكاتب :

  1. تكريس النكوص والاحتماء بميتا فيزيقا النص :

       وذلك بديلاً من مواجهة المشكلات التي يطرحها الواقع الموضوعي ، وهذه الحالة الاحتمائية وإن كانت محصلة طبيعية في أية ثقافة وصلت إلى مفترق طرق في مسيرتها التاريخية ، أي التي وصلت إلى ما بين ما تطرحه الحياة من أوضاع وتحديات تتطلب إمداد هذه الثقافة بعناصر الاستجابة اللازمة لهذه التحديات وبين ما تطرحه مطلقات هذه الثقافة من ضرورات ينصرم همها إلى الاستمساك بعناصرها القديمة كمتطلب لعدم انفلات الهوية وتلاشيها واندثارها ، بيد أن هذه المحصلة من الممكن جداً تأهيلها كأداة صالحة وملائمة لاستخدامها كحيلة مبتكرة ومفيدة جداً في الإبقاء والمحافظة على السائد السياسي والاجتماعي والثقافي الديني لصالح فئة ما وذلك بتوظيف هذه الحالة وتكريسها لمواجهة التناقض الحاد القائم بين متطلبات الانتماء إلى الدين والشريعة ، وذلك عندما يطرح الدين السائد تصورات وخيارات ذات طبيعة متنافرة مع الخيارات و التصورات التي يطرحها الواقع الموضوعي من حيث كونه قوانين وسنناً ثابتة وضرورية لا بد من معرفتها وفهمها وتوظيفها وتحليل معطياتها وتفسيرها وتغييرها .. للإمساك بمعادلات الاستقرار والرقي والتقدم في الحياة ، بحيث يصير التدافع بين هذه الخيارات المطروحة باسم الدين ، وبين ضرورات الواقع الموضوعي أمراً لا مناص منه ولا مفر ، الأمر الذي  يضع الإنسان المتدين بهذا الدين المتداول في مفترق الطرق..أي بين أن ينكص ويرتمي في أحضان النص حماية لإيمانه وانتمائه للدين – بمفهومه السائد – وبالتالي التنكر لمنطق الواقع والعقل معاً ، أو أن يختار المضي قدماً للفوز بلحظة الانتماء للواقع ومتنكراً لكل انتماء لهذا الدين ، متحرراً من رقبته وربما إلى الأبد !!

      ولعل أخطر ما في هذا الأمر هو قدرة هذه الحالة الفائقة على مناسلة البلهاء والدراويش بلا انقطاع على مر القرون ، وهم الذين ليس لهم من عمل مفيد سوى أن يكونوا جنوداً أوفياء في خدمة الإقطاع .

  1. تكريس عقلية التطفيف العلائقي :

      وذلك بديلاً من التوازن و الاعتدال ، حيث يكون التخلي عن مبدأ الحق واستبداله بمبدأ الواجب أمراً ضرورياً للفوز بلحظة الانقياد المطلق ، حيث تتوافر كل العناصر الصالحة للانفتاح غير المشروط ولا المقنن على كافة الاستدخالات التي يمكنها أن تحمل بين طياتها أشد التجاوزات وأعمقها فتكاً بكرامة الإنسان وحقوقه المتعلقة بأخص خصائص حياته وبشكل مستمر غير قابل للتأطر بميزان العقل أو المنطق ، مما يجعل الدين برمته أداة يمكن توظيفها لصالح بعض القوى الاجتماعية أو السياسية التي يكون بإمكانها الإمساك بموازين الصراع وأدواته ، لأجل التعبير عن مصالحها وأهدافها الخاصة تحت غطاء الدين بالذات .

تكريس حالة الانفلات المرجعي :

      حيث لا مبادئ ولا قواعد خالية من الثقوب يمكن الارتكان إليها لمحاكمة الآراء والتوجهات  مما يجعل الباب منفتحاً تماماً لتوظيف الدين والتلاعب به من قبل كل من يمكنه إجادة اللــعب بالكيفية المناسبة وفي الوقت المناسب . وما الذي سيمنع من ذلك مادام الرب المحتجب يمكنه أن يوجه الناس إلى ما لا يفهمون أو يعقلون أو يتبعون ؟! . و مادامت حجته عليهم يمكنها أن تسفر عن كل ما يعكر صفو مصالحهم ، ويطيح بحقوقهم ، ولا يراعي أبداً مؤهلات سعادتهم وكرامتهم ، في الوقت الذي ليس لهم فيه من خيار سوى الاستسلام والانقياد والرضا أيضاً  .. ؟! .

      ولذا فإنه من الطبيعي جداً أن يصل كاتبنا إلى ملاحظة أن مبدأ الاحتجاب كما هو في الثقافة الدينية ” السائدة ” إنما هو تواصل حميم مع خيوط الميثولوجيا القابعة في كيان العقل العربي التاريخي باعتباره عقلاً يعيش في وعيه الباطني تأثيرات الحكماء والكهنة والعرافين والسحرة ؛ الذين يحظون بكامل الإعجاب والتكريم .. بل وبالنفوذ والنقود أيضاً .. لقاء الوشوشات والطلاسم والمغيبات التي يلقونها على كل الناس من وراء عالم السنن والأسباب 

      كما أنه من الطبيعي جداً أن يصل كاتبنا إلى اعتبار مبدأ القهر والغلبة – كما هو سائد وموظف في الهيكل  الديني والتقليدي – إنما هو امتداد طبيعي لمفهوم الحق والكرامة كما كرسها الوضع القبلي والعشائري وما أفرزه من شيوخ وحكماء يحتفظون بحوزتهم على أهم مفاتيح الحياة التي يعيشها الفرد العشائري ، ليتم لهم فتح أخص الأبواب في حياته والولوج إليها ، وهي الأبواب الأكثر ارتباطاً بكرامته وحقوقه المنفردة والخاصة ليصييرها مشاعا عاماًً للجماعة أو القبيلة أو ملكا خالصاً لإرادة شيوخها .. وربما تحت تصرف أمزجتهم !!

      وهذا الامتداد الطبيعي هو الذي يسهل على الإقطاع والسلاطين مهمتهم ليضاعفوا من جهودهم في تكريسه و شر عنته بمعونة الفقهاء ليصير كل ذلك شرعة مقدسة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ..

      مما جعل الدين موطئاً طيّعاً لمن أراد ركوبه .. لا ليرتقي به إلى معارج الحق إنما ليمارس الدين في إطار لعبة الصراع ، فيستخدمه كل طرف كسلاح فعال لإجهاض مصالح بقية الأطراف وتتويج مصالحه الخاصة على أنقاض مصالح الآخرين ..

      إذن فإن الدين هنا قد طابق التاريخ – في نظر الكاتب – ولذا كان لا بد من البدء في رحلة عميقة ومضنية للبحث عن ” الإسلام الخالص ” عبر جدلية جديدة كان قد اختارها كاتبنا وهانحن على أبوابها ..

(1)  ومن المظاهر الواضحة لذلك الرأي الشائع والمعروف القائل بجواز أن يُدخل الله تعالى العبد المطيع المؤمن المجاهد ..الخ الى النار بحجة الملك .

يتبع 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :