المنظر الطبيعي للقطة السينمائية في الشعر الشعبي الليبيIl paesaggio

المنظر الطبيعي للقطة السينمائية في الشعر الشعبي الليبيIl paesaggio

بقلم :: نور الدين الورفلي

سأتحدث عن المنظر الطبيعي في الفضاء، بطريقتي، وسأتكئ على أبيات من شعرنا الشعبي كنماذج له، بطريقتي أيضاً، لأن ما قيل من شعر شعبي محلي، يهمني بالدرجة الأولى في موضوع المنظر الطبيعي Il paesaggio، إضافة إلى أنني كان يجب أن أتحدث عنه في الفيلم المحلي، ولم أجد سينما أصلاً، ولم يصادفني في الشعر الفصيح المحلي أيضاً، لكنني وجدته هنا عند هذا الشاعر الشعبي، وغيره من الشعراء المحليين وهم كثر، وكنت في مقالة سابقة قد تحدثت عن حالة الشعر عند بعضهم.
ماذا يحصل في المنظر؟ الواقع أنه لا يشير بأي حال من الأحوال إلى المشهد، ولا يدل عليه، ولا علاقة له كلامياً بالمشهد، إذا أردنا تفكيك الاصطلاحات وردِّها إلى أصولها، أو إلى أولئك الذين بحثوا في المنظر والمشهد قبلنا وكلهم من علماء الغرب على كل حال.
المنظر الطبيعي، في اللاتينية الإيطالية، يعني الـ Paesaggio، فيما المشهد في اللغة نفسها أيضاً، يعني Scena، الأول يختص بمنظر جمالي رباني مخرجه هو خالقه الذي يرى ولا يُرى، ولم يتدخل فيه الإنسان، فيما المشهد يقصد به ما هو موجود في إطار مجموعة من اللقطات، بتدخل من إنسان مخرج، هذا إذا ما تحدثنا عن السينما، أما في الفنون التشكيلية مثلاً، فإن الأمر مختلف على الرغم من تدخل الرسام فيه، وتدخل اللوحة التشكيلية في السينما بشكل ملحوظ أيضاً، والاستفادة من إمكانيات التشكيل في السينما بالطرق المتداولة في كلا الحقلين الفنيين، وهذا كلام يعيه المتخصصون جيداً.
الحالة الوجدانية للشعر الشعبي، هي أقرب أنواع الوجدان القادرة على رصد حالة المنظر الطبيعي، منها إلى السينما أو الفنون التشكيلية، على الرغم من براعة كلا الحقلين في إنتاج المعنى من خلال المنظر الطبيعي.
لن أذهب بعيداً، وسأختزل الكلام بالدخول مباشرة إلى هذه العينة الصغيرة، والتحدث بإيجاز عنها، وكيف أنها تفاعلت مع المنظر الطبيعي، وتساءلت بفيض وجداني كبير، عن أسباب الهجرة وخلو المكان، وتحول الفضاء الذي كان يعج بالجمال، إلى مجرد عدم.
أبدع شعراؤنا المحليون الأوائل، من الرومانتيكيين تحديداً، في مسألة طرحهم لحالة المكان بالذات، والكيفية التي عبرها يدخلون في المنظر، ثم يتحولون تدريجياً إلى اللعب على مفاصل المشهد، وكان لقدراتهم الإبداعية، إمكانيات هائلة منقطعة النظير في التخييل، خصوصاً في موضوعة <التشظي> Frammento أو لنقل التقطيع، والذي لا أقصد به هنا المونتاج، لأن ذلك اﻻصطلاح شيء آخر مغاير عن التشظي، ليس في مفاصل الكلام فقط حين يصفون المكان بمنظره الطبيعي، كحالة عاطفية، و لكن وهذا المهم، قدرتهم على التمهيد لوقوع الحدث، ثم اختزالهم وتقويضهم للزمن، يطرحون دوالهم على اختلاف أجناسها، بشر أو حيوان أو جماد، ثم يحيطون المكان بالمدلول، Segnificanza و يشحنونه بالرموز، رموز أقل ما يقال عنها أنها في منتهى الوضوح المعقد، إليكم هذه الأبيات من شعرنا الشعبي في الجبل الغربي، إثر اﻻحتلال الإيطالي مباشرة، وهي هنا قادرة كما هو ملحوظ على خلق طبقات من المعنى والمعزى والمبنى، استطاع الشاعر عبرها ومن خلال تداعي المنظر الطبيعي أن يترجم حالة الوجدان بكل ما أوتي من دفق مشاعر، أظهر فيه رومانسيته غير المعهودة عند غيره، حيث جاء بنمط شعري من الشعر الإيقاعي المموسق، بتكنيك ما يسمى بالمثلث والمخمس، وهو شعر يشتهر به أيضاً شعراؤنا في الشرق الليبي الحبيب، مثل قصيدة معتقل العقيلة للشاعر الفحل رجب بوحويش، التي سننوه لها بدراسة أخرى، فيما يخص شحن الإشارات بالدوال، (مابي مرض غير دار العقيلة وحبس القبيلة وبعد الجبا عن بلاد الوصيلة)، وهي على نمط المسدس، من الناحية الإيقاعية، أي شعر يتحرك بموسيقى مؤثراته الكلامية والصوتية، الواقع أنا هنا كما ذكرت آنفاً بصدد الإشارة إلى قصيدة أخرى تكاد تكون مجهولة، بالنسبة للشرق، في الوقت الذي يعرف كل الغرب قصيدة الشاعر رجب أبو حويش، وتكاد أن تكون محفوظة على ألسنة الجميع، سأدخل في النص مباشرة، وهو نص من الروعة بمكان أن لا يحتوي مكانه فقط، بالقدر الذي يحتوي فيه كرة أرضية بأسرها تدور على أحداثها، محمد الحامدي، شاعر رقيق إلى حد الرهافة والهشاشة وما يميز رقته أن خفة شعره، مشحونة بالقول البديع والثقيل جداً أي المحمل بالمغزى مع إظهار جماليات المكان وحزنه العميق، نظراً لتطريزه بالمعاني والعلامات الأيقونية:
نبكي على نجع راحت أولاده
أهل السيادة
طرده الجدب رحله من بلاده
انغني على نجع خوتي تفرق
غرب وشرق
ولا كِن لا لهد في الطرافي ومرق
و نشنش و عرّق
ولا كِن لا ضرب في العدم بالمطرّق
وكبرت انواده**
وعام السنى ما هوش عام حصاده.
انغني على نجع خوتي توارى
وخش الجفارة
طرده الجدب رحله من اوكاره
حكّرت*** ما قابل الضي ناره
برقبة ازياده
<< بربشت**** كانونهم ميت ارماده >>.
بطى قفلكم ما بلغ بوعجيلة
قدا وين كيله
ولذناه شط النخل بالطويله*****
بنلقاش عيلة
وننشد على وصف طير القتيلة*
…………
………..
* ولا كن يعني (كما لو لم يكن أصلاً).
** كبرت انواده أي تراكم خيره من الحصاد، والنود في الشعبي هو الكمية التي يقوم الفرد بحصدها.
*** حكّرت بالشعبي بمعنى دققت النظر في المكان، أو في المنظر الذي أمامي.
**** بربشت أي قلّبت الرماد، والمقصود هنا مكان النار، وسيلاحظ القارئ المتفاعل أو القارئ المساند، مدى الوجع المسكون في هذا البيت بالذات.
***** شط النخل بالطويلة، أي النخيل الوارف والمتكاثر في منطقة الطويلة المحاذية لمدينة العجيلات غرب طرابلس، والعجيلات من عواصم المنطقة الغربية وأكثرها خضرة، ولعل مرد التسمية، نسبة إلى سيدي أبوعجيلة الولي الصالح المعروف دفين هذه المدينة الجميلة، وتشتهر هذه المنطقة من الطويلة إلى مدينة الجميل ورقدالين مروراً بالعجيلات وزواره، بأنواع فاخرة من الكروم والتين والزيتون، وأغلبه ينمو بلا ري صناعي، معتمداً على وفرة المطر وخير الماء في فترة من الفترات، والواقع أن هذه الأراضي لم تزل مباركة وطيبة وتجود بالخير إلى يومنا هذا.
القصيدة للشاعر محمد بن عبدالرحمن الحامدي، عمرها قرن ونيف من الزمان، زودني بها الصديق الشاعر ضو ربيع الحامدي ، وهو أيضاً شاعر جميل ورقيق له مني أعطر التحايا القلبية.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :