مهدي التمامي
منذ زمن بعيد تنبأ (ألبير كامو) في كتابه (لا ضحايا ولا جلادون) بمستقبل التضادية بين العنف والوعظ، وأن هذا الصراع سوف يثور في السنوات القادمة.. وأن من المرجح أن العنف سينجح باحتمال ألف مرة من الوعظ الفكري.. لكن دوماً كان يعتقد “أنه إذا كان الناس الذين علقوا آمالهم على الإنسان مجانين، فإن الذين يئسوا من الأحداث جبناء.
لذلك سيكون هناك خيار وحيد مشرف: أن تراهن بكل شيء على الاعتقاد بأن الكلمات في النهاية ستثبت أنها أقوى من الرصاص”. وهذا ما عشته أمس ضمن فعاليات الملتقى الوطني لدعم الانتخابات الذي تشرفت بالدعوة لحضوره، وقد حضره أيضاً عدد كبير من الشخصيات السياسية، والحزبية، ونشطاء المجتمع المدني، وأنصار النظام السابق، ومؤيدوا الكرامة، والفيدرالية، والمستقلون من النخب المختلفة..
حيث كان صوت الجميع يدعو إلى ضرورة الانتخابات كاستحقاق مصيري من شأنه أن يخرج بالبلاد من أزمتها السياسية المزمنة. قبل أيام كتبت على صفحة أحد الأصدقاء تعليقاً مفاده أن أغلبنا لا يزال يقبع في الغرفتين الأزليتين للإنسان السحري، غرفة تشغلها الآلهة وسطوتها عبر هؤلاء المغمورين بضحالتهم من تجار الدين، وغرفة أخرى تشغلها قسوة الحياة والمزاج المستقر على حواف العصاب… وهذا ما نخشى أن يكون هو ذاته (موت الواقع) الذي تحدث عنه (جان بودريار) في (الفكر الجذري).. فإذا ما نظرنا إلى واقعنا اليوم، فإننا لن نستطيع أن نقبل؛ لا معرفياً ولا أخلاقياً بوجود واقع حقيقي، ومختلف نهائياً عن صناعة الزيف والتضليل والوهم. لقد انهار كل شيء لصالح عالم ما فوق الواقعي، “تتبادل فيه الأصول والأسماء والمعاني والمواقع داخل حركة دائمة ومريعة وغير قابلة للتنبؤ والفهم”. وعلى الرغم من هذه النظرة التشاؤمية فإننى أرى كما يرى الكثيرون بالقدرة على وضع أيدينا على تعقيد الواقع، لأن الأخطاء التي حدثت كان لها طابع مشترك يكمن في كونها ناجمة عن صيغة مشوهة لفهم الحرية، ومن هنا نستطيع أن نفكك النسق الطاغي، وتدوير الأمل من جديد، والسعي حثيثاً من منطلق الرغبة العارمة عند الجميع، نحو تأثيث الصناديق الصارمة، وقطف الأمل من حمولاتها الفاصلة…! لذلك أقول: لم تعد هناك أعذار يختبئ خلفها المواطن وقد صرنا إلى ما نحن فيه من منعطف خطير جاء به الاختلال السياسي السابق، والفوضى الشاملة، وسيولة الحريات الجارحة؛ خصوصاً لدى النخب المشدودة بقوس الرغبة والامتناع… للأسف هذا هو الموجود، مجتمع منقسم إلى قسمين، قسم يحلم بدولة عادلة تأتي بها السماء بغتة، وقسم يلتهم ما يجده أمامه وهو في حالة تلمظ دائم جراء ذلك.. السؤال هنا، ما هو الحل؟!
والجواب، بكل سهولة هو التفاعل مع الواقع، وقبول ما هو موجود من خيارات، والمضي قدماً نحو المشاركة في الانتخابات؛ بل وشحذ الحماس لذلك.. ولا يهم إذا لم نفز، أو لم يحظ الفريق الذي نتمني إليه بالفوز.. على العكس، علينا أن نتقبل كل ما يعترض أحلامنا من خيبات ومن تفوق غير عادل (للكولاسة) بأسلحة رخيصة كالديماغوجية وسطوة أموالهم الفاسدة المغسولة على ضعاف النفوس والمفرغين من كل وعي جسور… لن تجدي نفعاً اعتراضاتنا ونحن خاملون في (المرابيع) وغيرها من مجالس الأنس الرطب، ولن يصل صوت تذمرنا وانتقادنا للذين فازوا وذهبوا بعيدا بأنفسهم وأحلامهم المضمخة برائحة الغنيمة والمال العام.. ولن يكون لنا الخيرة في ترتيب الوطن والحصول على مناخ من المثالية، على مقاس الشرفاء الذين نذروا علمهم ومعرفتهم وتجاربهم النضالية للأخذ بيد الوطن نحو الاستقرار والأمان والديمقراطية المحصنة. سيغدر بنا الرفاق والأصدقاء والأقارب، سنتألم كثيراً من جديد، وتذوي أزهار الطموح والأمنيات، ولكن حتماً سوف تتغير الظروف تباعاً ويلمع ذلك الضوء الخافت الذي تبعثه أعين الحالمين، الضوء الذي يمثل الحق الضعيف وهو يجاهد ضد ضراوة الأوليغارشية وغيرها من مهدادات الأمل. العنوان يشير بصورة واضحة إلى مقولة الشاعر الفرنسي الشهير (رامبو): “إلى السلاح أيها المستعبدون” كان ذلك أثناء أحداث (كومونة باريس) التي تمثل الثورة الفرنسية الرابعة التي قادها الفقراء والمهمشون، كنتيجة لهزيمة نابليون الثالث في حربه ضد بروسيا، ودخول الجنود الألمان إلى قلب باريس.