- محمد مسعود
دقائق قليلة وتتيبّس الحياة فيك فتعود لعدم كما كنت ، رفع رأسه للسماء يبكي مصيره المظلم ، ثم وضع رأسه على ركبتيه وأجهش يبكي بمرارة . وحيداً .. يتيماً .. بائساً يموت ، وحيداً لا يعرف لعرقه عرق ولا يذكر أن له شجرة عائلة ، بهذا الوسط الملغوم بأوراق رثة ، يدعون أنها ضاربة بالقدم ، ليتباهى بها كما يفعل كثر .
كل ما يعرفه أن ذلك العجوز سعل به بالمقربة ، فكان أن التصق بالسلم منتظراً أن يلتقطه من سيمنحه الحياة لنصف شهر فقط لا غير ككل بني جنسه .
والدي الذي وهبنا الحياة بجسد ذلك العجوز مات بجسد العجوز ، فنال شرف الحياة وشرف الخلود فخلودنا في الموت . لقد التقط روح ذلك العجوز ، ومات ووهبني الحياة ، أي نعم هو عجوز خرف ، كان همه الوحيد التباهي بنسب تؤرخه بعض الخرق البالية كريهة الرائحة ، وهم بالأساس من صلب رجل واحد وأم واحدةُ ، فما أحمق هؤلاء البشر !
أتصور أن العرق الآدمي يعجز حتى الآن عن مكافحتنا فقط لأننا نتفاخر بجدنا الأول ونلتف حوله ، فكل تحوّراتنا تبقى ذات أساس واحد لا نحيد عنها ، ولو أنهم ضربوا بالعمق أساسنا الأول لكنا انقرضنا .
دقائق و أتيبس ولم يأتي الأدمي النجس الذي يهبني عمراً مديداً ، ما هذا النحس ! . ليس بوسعي التحليق و إلا لكنت سعيت لأحد المارة فاصطاده ، ذلك الشاب يتحاشى ملامسة السلم ، يجاورني ويهبط السلم بحذر ، وكأنه يعرف أني أتصيد الغافلين . تلك اليافعة الأنيقة هي الأخرى تتحاشى الملامسة ، فقط لو اصطادها ، سأكون أسعد (كورونا) عرفتها البسيطة .
– تعالي ، اقتربي ، تبدين مجهدة ، اتكئي .
– ناوليني كفك ، أرجوك .
– هيا بهدوء امسحي أنفك المرشوق كقائم الزاوية ، ما أجمله !.
– شكرا لهذا الحظ .. شكراً لهذه الحياة .
أشارت لسائق التاكسي أن توقف ، فتوقف جانباً ، ركبت ، لتقول له : المستشفى المركزي لو سمحت ، عند الوصول ، ناولته أجرته وهبطت وهي تحمل ملفات عديدة ، لتحاليل طبية وصور أشعة و خلافه .
ناولت الطبيب ما كانت تحمله . طالع بعض النتائج التي تؤكد التطابق بين الآنسة وأمها ، فقال الجراح للممرضين وهو يهز رأسه : جهزوا غرفة العمليات ومضى .
بغرفة العمليات ، كانت جميع قراءات الأجهزة تشير لكون الأمور تسير على ما يرام . وحده ذلك الفيروس كان يدرع جسد اليافعة طرباً ويغني .
إنها قداسة الاصطياد
تعيش لتموت
ويموت من اصطدت
فالخلود لما صنعت .
تباهى إذاً يا سليل الفناء
فأنت أبن الموت .
الذي لا يموت !.
كانت عقارب الساعة تشير للدقائق الخمس بعد الرابعة فجراً من اليوم الرابع عشر ، ما بقي برئتي المسكينة غير بضعة أمكنة تقاوم الموت ، الأكسجين الداخل للجسم ما توقف عن تحفيز الحياة بالمسامات المتبقية الجد منهكة . تمكن منها هي الأخرى ذلك الفيروس فسدها وابتسم ، قبل أن يموت هو الأخر ، حتى دون أن يتغني بأغنية الموت تلك .
ألام هي الأخرى ما نفعتها الكلى التي تبرعت بها لها أبنتها ، بذات اليوم حصدها الموت فغادرت بأسباب عدة .