قصة قصيرة :: جود الفويرس
سلمى. مبرُوك شركة زُها حديد للمشاريع الهندسيّة تطلبكِ لتدريبك. خرجتْ سلمى من مكتبِ الدّكتور عماد مصعوقةً قالت في نفسها: “والفرح يصعُق أيضًا” ثمّ أردفت بعد مدّة: “رباّه، ويدهش المرء!” فكرّت وهي تتذكرُ صوتَ عماد الضّحوك وهو يخبرها بما تمنّته طوال حياتها بأنّ عليها التعامل مع شُعورٍ كهذا من الآن وصاعدًا، أن تعتادَ الفرحَ، وأن تتركَه يُباغثها ويعمل تأثيره فيها. سارت في رِواق الحرمِ الجامعيّ بخطواتٍ من الصخر، ثابثةً كسيفِ آرثر، خطواتٌ لاهثة تطرقُ الأرضَ، تُسمع كالصّدى وتموج وتدوِي في ممرّات جوفها. شقّت طريقَها بين الزّحامِ وهي تسمعُ صوتَ المنشارِ، ودقّ الأبواب، خُيّلت إليها عقيصة شعرها التي تهتزّ الآن إلى الأعلى وإلى الأسفل في نغمٍ كلاسيكي إثر السّيرِ بأنّها محاصرة في القبّعة الصّفراء، وأنّ عينيها ذاتا البصيرة الرّائعة تحميهما نظّارة الحماية البلاستيكيّة، سمعتْ نفسها تأمر وتنهِى وتحكُم القائمين على الإنشاء، ثمّ باعدت ما بين ساقيها وقفزتْ خطوةً كبيرة بالزّمن وهِي تنظر إلى مبناها الذي لا زالت تجهلُ شكلَه بعد، مشيّدًا بكفاءةٍ عالية. لم ترَ ليث المتيّم بها وهو يراقبها كالسّاعة، والغيبَ والأقدار، ولم تسمع صديقتها ريم وهي تنادِيها كدُنيا لحوحة، وصلتْ إلى بقعتِها المنعزلة كعملٍ صالحٍ لذاتها فقط، تتصدّق فيه بما تملكه كلّه على نفسِها، تكسب الثّواب، وتمدُّ يمناها ليسراها بأشياءٍ من العقل والقلب تُبدع بها. جلستْ ثمّ أخرجتْ أوراقَها وأقلامها من الحقيبة، وبيدٍ رشيقة وأصابعَ ناعمة شرعت تخطّ ظلالًا مائلةً لا يكسوها إلاّ صخرٌ عتيق ورخامٌ أملس، تشعرُ بصلابةِ ما ترسم وضخامته وهي تسند مستقبلها عليه، كان أمامها، تحسّ بشمس تُوسكانيا الحارّة تحرق عينيها وهي تدقّق النّظر فيه، تصعده ببصرها إنشً فوق إنش، وتعد أقواسه، وتزامنًا مع هذا تترامى على سمعها ضوضاءُ حديثٍ بعيد بلكنةٍ إيطاليةٍ صاخبة. لوهلة وضعتْ سلمى يدَها على صدغِها بعد أن أكملت الرّسم، كان ردّ فعلها العصبيّ بديهِيّا جدًا خوفًا من أن يسقطَ على رأسها مبنى “torre pendenle di pisa” الثّابث على حاله منذ قرون، كان مبناها المفضّل وأعجوبة حياتها أيضًا، حيًّا بثقله كلّه في رسمتها وذاكرتها. رنّ جرسُ هاتِفِها فسُحبتْ من إيطاليا بعنف، شعرتْ بدوارِ السّفرِ وبضجيجِ المطارات، ولسببٍ ما لم تحمدْ الله على السّلامة، جالت ببصرِها حولها؛ فأدركت مكانها وتساءَلتْ: “كم لبثتُ هنا؟”، كانتْ النّغمةُ تعودُ لأغنيةِ تايلور سويفت “wildest dreams”، لا تعرفُ لماذا اختارتها هي من كلّ الأغانِي؛ رُبّما العُنوان وربّما اللحن، وربّما هذا القول منها: “say you will remember me”، لم تنظر إلى المتّصلِ؛ فهذا لا يهمّها على أيّةِ حال، كان إنذارُ طوارئ ليس إلاّ؛ بأنّ السّماءَ أصبحتْ غائمةً وحلول الليل قريب، وعليها الآن، الآن تمامًا أن تعودَ إلى المنزل. في منزلها كانتْ ممدّدةً على السّريرِ بسروالٍ مبقّعٍ بالمبيض وجورب مثقوب، لا ترتاح إلاّ في ملابس مشابهة في المنزل، تفردُ شعرَها الأسود الطّويل وتحدّق في السّقف، معجونةً بالطّموح، مدهوكةً من التّعب، معصورةً مستخلصة بالعمل الجاد، تُفكّر أن تنام ثمّ ترمق كتبَها بنظرةٍ جانبيّةٍ شائكة؛ فتعدل عن أفكارها، تقوم وتعد كوبًا من القهوةِ وتدرس.
تذكّرتْ الهاتفَ وتذكّرتْ المتّصلَ، نظرتْ إلى شاشتُه؛ فتكدّرَ خاطرُها، كان الأستاذ خالد، يودّ الاطمئنانَ عليها كدأبه، ولأنّ في الغرفةِ المجاورة كان صوتُ المكنسةِ الكهربائيّةِ الغاصةِ بكتلةِ كلينكس التي ابتلعتها حديثًا يشبه دويّ الرّيح، ريحٌ خريفيّة بامتياز، ريحٌ تُسقط الذّكرياتٍ كالأصفر الهشّ من الورق؛ اختلط الصّوت في عقل سلمى باسم الأستاذ خالد ودارت تروس عقلها، وتوقّفت في محطّة الخمس سنوات سابقة، كان أثرُ هذه العودة المستعجلة معلّمًا في الطّريق، خطوطٌ سوداء، عجلاتٌ مدخّنة، ومكابحٌ تأنُّ وتشكي. كانت قد قرأتْ رسالةَ الأستاذِ خالد حتّى حفظتها مرّةً بعد مرّة، أفقدتها صوابها؛ لكنّها بدتْ كلماتٍ غريبة وهي تعيدها الآن، ربّما لأنّ الزمن يُسقط الأشياء بالتّقادم، ومهما أسأنا الظن فيه بالتّوقف؛ فإنّه يُفاجئُنا بطاقتهِ الكامنة المُخزّنة، يحبو بها رويدًا ويتعثّر قليلًا، ثمّ يركض دُفعةً واحدة. قال الأستاذُ في رسالتِه: “ابنتي سلمى، لم أستطع التّحمل بعد، عليكِ أن تعرفي الحقيقة، لابد وأن راودتكِ منذ عامٍ أسئلةُ كيف، من، ولماذا؟، إلى أن أفقدتكِ صوابك، أقول لكِ الآن كلّ شيء، عم حسن قد قتل ابنَ تاجرِ العقد الماضي، وكما تعرفين حين يُخلق الثأر؛ فإنّه يجيء في ألم ولادته لا في فرحه، إنّه خالدٌ من أجل الفناء، كمصاصِ الدّماء في القصص الخرافية، يظل كما هو، رابضًا في ذات الشّكل، لا يتحوّل إلى مادّةٍ أفضلَ مُطقًا وحين يُقدّر؛ فإنّه يقعُ كضربٍ من الموتِ الجائع، يمتصّ الدّماءَ ويدّخرها لنفسه سفكًا من أجسادها، ويقضِي بحمرةِ لونه على كلّ شيء، علمنا أنّ الرجلَ كان يتأهبُّ لفرصةٍ مناسبةٍ لردّ ثأره، وعم حسن كان أعزب، كان علينا حماية أيل الصّيد المناسب، أتفهمين؟ وكُنت أنا أحاول أن أحول بين صيده، لا تحقِدي عليه، ولا عليَّ أرجوكِ، أعلم بأنّكما وجهٌ وظهرٌ لروحٍ واحدة، وأعلم بأنّ ما حدث قد فرّق فيما بينكم للأبد. حين علم حسن بالاتّفاقَ بيني وبين والده وعمّه على هذه الخُطة لم يرضَ أبدًا؛ لكنّها طوقُ نجاته الوحيد، بكى المسكين دمًا، ومخاطًا وروحًا، يبكيكِ، يبكي صداقتك، طار عن وجهه رُبّما وغادر البلد؛ لكنّك كُنتِ في كلّ الأمتعة. أعلم يا ابنتي أنّك ستُسعدين إن علمتِ بأنّه في مكانٍ ما في هذا العالم حيٌّ يرزق، قُمتُ بتبديل النّتائج وكانت نتائجك المُذهلة وحدها القادرة على كسبه مُنحةً دراسيّة مُمتازة، أعتذر يا ابنتِي، أعتذر من كلّ قلبِي. أستاذك المحبّ إلى الأبد، خالد.”. طوتْ الرّسالةَ وأعادتها إلى الدّرج، ثمّ راحت تنظرُ إلى نفسها في المرآة، رأتْ سلمى الضعيفة المظلومة، سلمى الفاشلة والتي أعادت عامًا دراسيًّا كاملًا، سلمى المشتعلة كالنّار، سلمى القاتمة السّوداء
وسلمى الحاقدة، تحسّست قلبها وتنهّدت عميقًا وهي تزفر كلّ شيء، ابتسمت وهي تقول: “زال كلّ هذا الآن “.