محمد عبد الحميد المالكي
مختبر بنغازي للسيميائيات وتحليل الخطاب
(*) كما نشدد على ضرورة العناية بمباديء ترتيب كيفية تعقل العالم: المقارنة، فالتصنيف ثم التجريد، سواء كانت بالوصل اوالفصل اوالتضمين، بالمعنى البنيوي. كما لا يجب ان ننسى؛ انها عمليات اجرائية مؤقتة بل ومتعسفة ايضا من اجل كيفية تعقل العالم. اما في حالة تدوال للكلام (مع متلق)، فأن التجريد (اوالمفهوم) او كل وحدة معجمية، ستتحول بدورها الى مركز دلالي، ضمن شبكة من الانساق الدلالية القابلة للتأويل اللانهائي، اوطبقا لثلاثيات بيرس لصيرورة العلامات (السميوزيس Semiosis).
(*) اخيـرا، ربما يكون اولا، ان كل ما نقارب به “الظاهرة”، من ادوات نظرية واجراءات مفاهيمية، ما هو الا محاولات واقتراحات، قابلة للتعديل والاضافة بل وحتى الالغاء ايضا، لصالح الانفتاح على تعقل الظاهرة. هذا هو الدرس الذي على اللغة الواصفة (الميتالغوية) للعلوم الاجتماعية ان تتعلمه من العلوم الفيزيائية والطبيعية. اذ اصبح من المخجل ان نتعامل باستراتيجيات تأملية انطباعية، بعد قرن ونصف من الانجازات الباهرة لعلوم الابستمولوجيا: الكوانتم والكاوس، والتطبيقات العلمية، حتى على المستوى التجاري والصناعي: كومبيوتر الكوانتم، السيميائيات البيولوجية، علاقة الدماغ باللغة، علم النفس المعرفي (الادراكي، العرفاني)..الخ. لكل ذلك؛ تصبح اهمية التمييز بين المفاهيم، باعتبارها “الشبيـه”(سمولاكر Simulacra)، وبين الظاهـرة، بالمعنى الفيزيائي. هذا التمييز لا غنى عنه في شروط البحث العلمي المنضبط، بل هو الشرط، صمام الامان، للابتعاد عن حقول العلم الزائف.. اوكيفية صناعة الاوهام العلمية..!
صناعة المعاجم من “صناعة المفاهيم”(Conceptualizations)
اذا كانت الترجمة تعني التأويل والتحويل، فاننا نضيف هى صناعة بامتياز وليست فنا اوعلما، كما يروج بعض الكتاب والباحثين باستسهال عجيب ومجانيات غريبة. لكل ذلك فاننا نقترح ان صناعة المعاجم والقواميس هى فعل الترجمة (التأويل) بامتياز. كما تكون الترجمة، داخل اللغة نفسها، كفعل تلقي لـ”مؤول”، اوكيفية تعقل العالم (السيميوزيس Semiosis) بدون الدخول في تفاصيل نظرية، اذ يعنينا منها هنا: اشكالية كيفية صناعة المعاجم والقواميس، اى كيفية انتاج المعنى في الترجمة داخل اللغة. اما اذا كان “المعنى” لا يكون بدون حضور الذات الفرديه الساردة (منتج الخطاب/ضمير المتكلم) من اجل إنجاز الخطاب السردي المتميز والنوعي والذي لا يتكرر. فأن إنجاز المعنى بالنسبة للسارد ذو قصدية محددة تهدف للتأثير على المتلقي (التداولية pragmatic)، وبالنسبة للمتلقي ذو معنى تأويلي (= القابلية للتأويل)، أو تعدد التأويل اللانهائي، بعدد القراء الفعليين لحظة فعل القراءة، أو المشاركة في مسؤولية انتاج المعنى، المشاركة المسؤولية التضامنية بين منتج النص وبين المترجم، في كيفية صناعة المعاجم والقواميس.
المعاجم وتقنيات الترجمة والتعريب (او صناعة المفاهيم)
نقترح هنا الامثلة لبعض تقنيات التعريب، التقنية المبدعة في ترجمة المصطلحات والمفاهيم، وقد اخترنا منها:
السيمائيات
كان القرن التاسع عشر هو قرن الانجازات الكبري، التي نعيش نتائجها حتى يومنا هذا، بعد ان انجزت القطيعة الابستمولوجية العظمى، التي دشنت مع منتصف القرن وحتى مطلع القرن العشرين. اعتمدت هذه القطيعة على النظرية البنيوية الرياضية (بنية المجموعات) في العلوم الهندسية والفيزيائية، ومن جهة اخرى نظرية التطور(دارون) في العلوم البيولوجية. فكان على العلوم الاجتماعية (دور كايم وموس)، ان تتعلم الدرس من انجازات تلك القطيعة الابستمولوجية. كان من ضمن تعلم هذا الدرس تأسيس علوم اللسانيات والسيميائيات في حقول علوم اللغة والفلسفة. وهنا علينا توضيح مسألة في غاية الاهمية، على صعيد فوضى المصطلح وعشوائية استعمالها، اذ كثيرا ما نقرأ، غالبا في نفس الكتاب او البحوث، سيموطيقا، علم العلامات، سيمولوجيا، سيميائية..الخ، مما يساهم في ارتباك الطلاب والباحثين في بداية مشور ام العلمي، ويتم اهدار الكثير من الوقت والجهد في مطاردة الفروقات والاختلافات، حيث يبدو وكانها مصطلحات لعلوم مختلفة تعبر عن حقول متميزة عن الاخرى، وهو من مظاهر غياب التأطير لدى اساتذة الجامعات وضعف التاهيل الابستمولوجي، كما ذكرنا سابقا. ذلك لان الاصول المعرفية للسيميائيات الانقلوسكسونية (سيموزيس تشارلز بيرس): المنطق الرياضي (بنية المجموعات) والنظرية التطورية البيولوجية (التداولية) من جهة اخرى. اما السيميائيات الفرانكوفونية (السيمولوجيا) فان اصولها الابستمولوجية علوم اللغة (اللسانيات) والنقد الادبي (اللسانيات النصية او علم النص). كما تم حسم هذه الازدواجية على المستوى الدولي بين مصطلحي السيمولوجيا والسيميائيات، حيث تم توحيد السيميائيات الانقلوسكسونية (فلسفة اللغة: بيرس، تشارلز مورس الموسوعة الفلسفية) والسيميائيات الفرانكوفونية (السيمولوجيا) وانتهاء البنيوية (في المعنى 1، غريماص 1970)، مع تأسيس الرابطة الدولية للسيميائيات (1970) واصدار مجلة (السيميوطيقا /Semiotic)، بذلك تم انتهاء التشويش بين السيمولوجيا والسيميائية. حيث تم الاتفاق على مصطلح السيميائيات. كما تحديد حقولها العلمية ضمن، كل ما يتم به الاتصال، اشكالية انتاج المعنى.
الشعرية (اوالبويطيقا Poetics)
عندما قام متى بن يونس بترجمة كتاب ارسطو “Poetics” مستخدما تقنية التعريب، الى “البويطيقا” واستمر الكلاسكيون العظام، منهم ابن سينا، على هذا التعريب حتى القرن الماضي. وفي هذا السياق كانت ترجمة عبد الرحمن بدوي “فن الشعر”، بدلا من البويطقيا، تلك الترجمة المتسرعة الركيكة، الخاضعة لارغامات ايديولوجيا القومية العربية ( =حروب الشعارات)، ثم فيما بعد تمت الترجمة الى الشعرية او الانشائية، طبقا للتقليد الاصولي الكلاسيكي (ثنائية الجملة الخبرية والجملة الانشائية).