التطرف .. نظرة أولية

التطرف .. نظرة أولية

بقلم / حسن المغربي*

“من حق الفلسطينيين ، في الظروف الراهنة ، أن يقوموا بأعمال عنف .. وينبغي على الإسرائيليين أن يدافعوا عن أنفسهم ضد هذه الأعمال ” سارتر

يُنظر إلى الفرد ” المكلف ” في التراث الديني العالمي بحسب مفهومي الطاعة والعصيان ،فكلما التزم المرء بتعاليم الدين كان من الفرقة الناجية ،والفرد الذي لا يصغي للفروض والواجبات أو يقدم الإذعان لها يكون بصورة مباشرة في النار .. هذا ابسط فهم للمسار الديني الإنساني منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا ..
قد تبدو فكرتي الطاعة والعصيان فاعلة في هذا الصدد ، فالناس على اختلافهم يطيعون ( الله ) من أجل الثواب والغفران أو بالأصح لدرء العقاب ، لكن المشكل يكمن في الأساليب والطرق المستخدمة في ذلك ، فمثلا لا يمكن بأي حال للفرد اليهود- الإسرائيلي على وجه الخصوص أن يتكيف ويعيش بسلام مع الآخر ما لم يهدم الأسس التى قام عليها الفكر الصهيوني مثل التمييز العنصري والديني والاعتماد على اللاهوت ، واعتناق أيديولوجية تتجاوز التاريخ ، ففي خطاب الرباني ( ألبو ) تصريحا واضحا يؤكد على” إن الله أعطى اليهود كل قوة على خيرات الأمم ودمائهم ” ، ومن هذه النظرة المتعصبة ، نرى التلمود يحلل للفرد ( اليهودي ) السرقة والربا وغش الغريب ( غير يهودي ) ، بل يحلل له سفك دماء المخالفين ، والتمتع بنسائهم وأطفالهم في جميع الأحوال سواء أكانت أحوال حرب أم غيرها من الحالات ..
يقول كاتب فرنسي ( يهودي ) عاش في القرن الثالث عشر ” أن تجارة البغاء بالأجنبي أو الأجنبية ليست إثما ، لان الشريعة براء منهما كما قيل : زرعهم من زرع البغال “، وفي كتاب ( روسيا اليهودية ) نرصد مدى تسلط وتعنت الفرد اليهودي تجاه الآخر ، فهو من حقه مثلا – وفقا لتعاليم التلمود – أن ينزع ملكية الأراضي من هذا أو ذاك المسيحي ، لان ممتلكات الآخر لا مالك لها مثل رمال البحر ، وأول يهودي يستولي عليها عنوة يكون مالكها الأصيل ” ، أي بحكم سلطته العرقية باعتباره من أبناء إسرائيل يستطيع الفرد ( اليهودي ) بكل الوسائل المشروعة وغير مشروعة تملك أكبر وأعظم جزء ممكن من الأراض، لأن الأرض ومعها السماء أيضا لم يخلقا إلا إرضاء لإسرائل بحسب ما يرد في سفر الأحبار .
بهذا المفهوم المتعالى تبرر إسرائيل اليوم اضطهادها للشعب الفلسطيني وتصفيتها له ، وعلى هذا الأساس اخترعت إسرائيل ما يسمى بنظرية الفراغ حتى تقضي على الشعب الفلسطيني ، وما من شك في أنه – كما يقول عبد الكبير الخطيبي – استعمار من نوع خاص : فهو لا يرمي إلى احتلال البلاد وإنما إلى إقصاء سكانها، وفقا لهذه النظرية الغريبة يرفض الفرد الصهيوني الآخر بحسب منظومته الشرعية التي تدعم فكرة وجوب إبادة الشعوب الكنعانية السبعة عن وجه الأرض ، واليهودي ( المؤمن ) وفقا لهذه التعاليم يتعدى الشريعة الربانية إذ رفض قتل واحد من هولاء الشعوب المومأ إليها .
إن الوعي المعرفي للفرد الإسرائيلي وعي عبري ، يستمد تعاليمه من التلموذ والشعائر الوسيطة ، فهو يتغذى من أشباح الماضي على حد تعبير ” دويتشر ” ، ولكي تتخلص الذات الإسرائيلية من هذه الأشباح عليها قبل السلام والشعارات الفضفاضة خلخلة الأيدولوجية الصهيونية من الأساس ، وتقويض فكرة الشعب المختار التي كونتها عن نفسها منذ زمن سحيق .
وفي تاريخ الممالك المسيحية نرى الفرد ( النصراني ) كذلك لا يتقبل الآخر في العديد من الحالات .. فالديانة المسيحيةالتي اشتهرت بالرحمة والتسامح ، نجدهاتتبى بشكل رسمي خطابات القديس أوغسطين و توما الأكويني التي تدعو إلىى نبذ الآخر وإلغاءه كليا ..
ففي العصور الوسطى قرر المذهب الكاثوليك إستنادا إلى دعوة توما الأكويني ( باسم الحرب العادلة) حرق المخالفين من الهراطة وأصحاب البدع ( اليهود/ العرب ) ، وظلت محاكم التفتيش ردحا من الزمن وهي تمارس سلطتها الدينية على الشعوب المغلوبه كما حدث في الأندلس إبان جلاء المسلمين عنها 1492 م ..
هذه الأمثلة البسيطة توحي للوهلة الأولى بأن الدين هو المسئول عن كل حالات التطرف والتعصب، لكن من ناحية أخرى فإن هذه النظرة تنقصها – على الأقل – حسابات معرفية كثيرة تحيل بمفهوم ( بول ريكور ) إلى ما يعرف بفلسفة الوجس المتمثلة في فصل المعنى عن الوعي أو المعرفة عن اليقين مبينة أن المعاني أو الأحكام سواء أكانت متطرفة أو غيرها لا تصدر عن ذات سيكولوجية أو ترسندنتالية ، وإنما تتولد في اللغة ومنظومات القرابة ومختلف المنظومات الرمزية ، وأن الذات ليست فاعلا بقدر ما هي حصيلة مفاعيل .
بطبيعة الحال نحن لا نروم إلى إخضاع كل شيء لقدرة العقل كما فعل ( ليبنتيس ) ، أو نجرد الألفاظ والمعاني ونرجع كل معرفة إلى الذات المفكرة أو( الكوجيتو) الديكارتي ، وإنما المهم عندنا هو نزع الطابع الكهنوتي عن التصورات التقليدية السائدة . فلو نظرنا إلى تعاليم الوحي بمعزل عن شروح وتعليقات رجال الدين المتأثرة بالصراعات العرقية والتاريخية بين الشعوب ، لأدركنا مدى التحويرات التي سُلطت على نصوصه ، وذهبت به مذاهب لم ينزل الله بها من سلطان ، ومع الزمن لبست هذه الإضافات الوضعية لباس الشرعية ، وأخذت منحى آخر مخالفا لما جاء به الشرع ، ولكونهم السلطة الوحيدة المخولة لتفسير الوحي ، فإنهم أفراد أو جماعات أو مؤسسات خرجوا بتعاليم إنسانية – بالمعنى السلبي لهذا اللفظ – ألغت بموجبها مفهوم التسامح، واستبدلت مكانه مفردات التطرف والقتل والتشريد .
نعم هناك من يقول أن الثورة عن النظم والتقاليد البشرية هي ثورة طبيعية متأصلة في نفسية الإنسان باعتبارها جزءا من تكوينه النفسي ، فالإنسان منذ عهد الأساطير وهو يتطلع إلى الثورة على كل القيود المفروضة ، وهذا رأي بديهي تدعمه أدلة وشواهد تاريخية عديدة ، ونحن لسنا في صدد تبيانه هنا ، لكن ، في المقابل نرى إن ظاهرة الغلو حينما تكون في المسائل المعنوية المتمثلة في الأحكام الجمالية مثل ( الموسيقى ، والشعر ، والأدب إلخ . يمكن قبولها على افتراض مبدأ اختلاف الاذواق والامزجة ، أما حينما يتطرق الغلو في المسائل المادية كأعمال القتل والعنف وغيرها ، فلا يمكن قبولها حتى لو وضعنا في الاعتبار عامل الخير والشر الذي يبرر به دائما العديد من الحروب الكونية .
لذا ! يمكن القول بأن المغالاةفي تقدير الأشياء الروحية والمادية على السواء هي المحرك الحقيقي لمسيرة التاريخ البشري ،وإن كل الأعمال التخريبية والحروب والمآسي التي عانت منها الشعوب منذ الأزل ما هي إلا تعبيرا عمليا وحاسما لهذه النزعة ، وهناك أمثلة عديدة في التاريخ العالمي تؤكد هذا الزعم .. من أشكال المغالاة عند المسيح عقيدة الثالوث المقدس ، لقد تفانى المسيحيون في حب المسيح حتى أصبح المسيح عندهم هو ( الرب ) ، وكذلك الشيعة ، فهم أيضا غالوا في حب آل البيت لدرجة أنهم وضعوهم فوق مرتبة الأنبياء .. والصوفية غالت في حب الله إلي أن كفرت بظاهر نعمته ، أما المعتزلة الفرقة الإسلامية الوحيدة المشهورة بتحكيم العقل ، غالت هي أيضا في مسألة تنزيه الذات الإلهية حتى وصل بها الأمر إلي القول ( بخلق القرآن).
ومن ناحية أخرى نرى المغالاة في الأحكام العلمية أيضا ، فهناك اعتقاد يقول بأن معادلة ( آينشتين ) E =MC2 هي حجر الأساس في صناعة القنبلة الذرية، وقد ارتكزت هذه الإشاعة على رسالة آينشتين المؤرخة في 2 / أغسطس 1939م إلي فرانلكين روزفلت ، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية حيث كانت بمثابة البذرة التي أثمر عنها ( مشروع مانهاتن ) حسب وجهة نظر الأبحاث الأمريكية الحديثة..
إن أعنف أشكال الغلو نلمسه في الذات المتطرفة ، وأي إنسان يحكم على الأشياء من زاوية واحدة ، يقال عنه متطرف ، سطحي ، وأحيانا ينعت بالراديكالية .. هذا فهم ظاهري يعرفه الناس جمعيا ، أما الفهم الداخلي يكمن وراء الذات المنتجة للأحكام المتطرفة ، ولتوضيح هذه الموضوعة الملتبسة ، علينا أن نمثل لها .. ففي ثقافة الشيعة – مثلا – لا يوجد فهم للحياة الإنسانية خارج النصوص المقدسة المتمثلة في الثقلين ( القرآن وعترة رسول الله ) ومع اعتراف فقهاء الشيعة بالعقل والمنطق في تبيان الشريعة ، إذ بدون حكم العقل لا يثبت صدق الوحي كما يقولون ، إلا إن سلطة العقل عندهم مقيدة بمساحات معينة ، لذا نجدهم يحددون مصير الإنسان ( المكلف ) في مدى الطاعة أو العصيان داخل منظومتهم الفقهية المتحيزة لمبدأ الإمام، حيث يُنتفى على الفرد الشيعي – وفقا لهذه المنظومة – صفة الإيمان إذا ما أنكر أو كذب ظهور الحسن العسكري ” الإمام المنتظر” الذي سيملئ الأرض عدلا بعدما ملئت جورا وظلما .. هذا باختصار الرؤية التشريعية للإسلام الشيعي ، الذي يضع إمامة علي وبنيه الأثنى عشر مقابلا موضوعيا لطاعة الله .
لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذه الحال ، ما هي آلية الممارسة التي تبناها هولاء الفقهاء ؟ وكيف توصلوا إلي أحكامهم تلك ؟ يبدو أن التبسيطات الأروكولوجية التي تندرج تحت مفاهيم الأولوية في الترتيب مثل القرآن ثم العترة ( آل البيت ) والأحاديث المتواترة في كتبهم ( الكافي و بحار الأنوار ) وغيرهما ، هي أعلى تجليات الحكم الشرعي عندهم ، ، أما باقي الأحكام لا يؤخذ بها– في مذهبهم – لكون أصحابها غير معصومين أو غير مرضي عنهم بنص الرسول (ص ) ، هذا الوضع ساعد في إنكار سلطة العقل على النصوص ، وأزاح مفاهيم معرفية من قبل (الاجتهاد و العقل و التجديد) وغيرها من المصطلحات ، وخلق في الوقت ذاته فئة متطرفة تحكم على المخالفين بالفسق والكفر والإلحاد ، وتؤمن بأنها الفئة الناجية التي تدخل الجنة وفيما عداها في النار …
باختصار ، نحن نرى أن الذات الإنسانية هي المسئولة عن توجيه التاريخ الحضاري ، وان التقدم العمراني والمعرفي لا يتأتى إلا للذات المنتجة التي تفكر كما يفكر الفلاسفة ، وتضع في حسبانها قياس الأشياء كما تنبغي هي لا كما ينبغي الغير …
مدير تحرير مجلة رؤى

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :