التيهان والرأي العام في ليبيا  … من وجد ضالته في الآخر ؟ 

التيهان والرأي العام في ليبيا  … من وجد ضالته في الآخر ؟ 

بقلم :: أحمد الشيباني ( كاتب وباحث أكاديمي )

قياس الرأي العام في في المجتمع الليبي أصبح قضية في غاية الصعوبة ولا يمكن لأيٍ كان أن يختزل الرأي العام في وجهة نظر محددة أومختصرة فعملية إجراء إستقراءٍ كاملٍ أو حتى  ناقصٍ ونسبي إن صح التعبير لا يمكن ( بشد الكاف ) المتخصص بأي حال من الأحوال من أن يعطي أو يقدم للمتلقي أياً كان أيضاً صورةً واضحةً عن الرأي العام في بلادنا فحالة التيهان – إذا حُق لنا أن نسميها هكذا – هي حالة سائدةٌ لدى العامة والغالبية العظمى منهم اليوم , كما أن تقديم صورةٍ واضحةٍ ودقيقةٍ أمرٌغيرممكنٍ في الوقت الحاضر والسبب يكمن في أن عملية التلقي اليومي للخبر والمعلومة أصبح يأتي من أبواب عدةٍ معلومة وغير معلومةٍ في كثيرٍ من الأحيان بل أبوابٌ عندما ندقق فيها نجدها تقترب في وصفها من حانات الدعارة القديمة المبنية من أردأ أنواع البناء أو الطين وفيما بعد الصفيح وغيره من المرميات والبقايا , والغريب أنه مطلي ومزين لا لشد الإنتباه بل مراعاةً للذوق العام الذي أصبح متقلباً متغيراً فالمتسخدم والمرتاد لتلك المباني الحقيرة يعرف مدى ردائتها ومستوى القذارة فيها وفي جنباتها فما يهمه هو النتيجة ولاشيء غيرها , كل ذلك ينطبق على بعضٍ من الإعلام اليوم وكثيراً من تأثيره المباشر بسبب عبثية الأداء الإعلامي – والذي وصل للمستوى الأدنى من الناحية القيمية والمهنية رغم سيطرته على العقل الجمعي دون النخبوي وتغييبه عن مصير الناس وقضاياهم الأهم  ( الدستور التداول السلمي على السلطة  … الخ ) – ولنا في الحديث عن العقل النخبوي مقالات ومقالات – فالعقل الجمعي لم يعد له دورٌ فيما يحدث وحتى على صعيد الرفض أو القبول لأي مستجداتٍ من الأمور وما يخص مستقبل الوطن خصوصاً , فقد أصبح  عاجزاً عن التعاطي مع المتغيرات بفعل حالة عدم الإستقرار الإجتماعي والسياسي وحتى الإعلامي الذي يمر بحالة من الهيجان التاريخي في بلادنا , كما أن حالة اليأس النسبي من حين لآخر بدأت تؤثر ومنذ فترةٍ لا تقل عن الخمس سنوات تقريباً على مساحات واسعةٍ من الرأي العام المنساق وراء أداءٍ إعلاميٍ متخلفٍ فالإنفلات القنواتي وسباق التسلح الإعلامي كان إنعكاسه حالة التيهان تلك لأن التناقض والتلاعب بإستغلال الخبر وتقديمه بشكل موجه ومدروس إبتعد كثيراً عن المنطق والعقل وبدأ وكأنه في ساحة وغى وحرب لا هوادة فيها , بإعتبار أن العمل بدأ على قدم وساق من وراء الكواليس أما من أمامها فكان العمل على إطلالة مذيعة مرصعةٍ ومطليةٍ وحواجبٍ بلغ حد أن تختفي من على الشاشة واستبدلت ب ( توتو توتي تاتي … عند أول مزينة الخبر اليقين …  !!! ) وهي واضحة للعيان وليست باطنة منمقة فيما قبل الظهور أمام الشاشة الواضحة بشيءٍ من الديكور وقليل مما جادت به محال الزينة التي أصبح إرتيادها نخبوياً أيضاً – كيف لا والأسعار في السماء – أما في الأرض فهناك أداء إعلاميٌ لمذيعين ومذيعات خرجوا علينا فجأة وبلا مقدمات أو إعداد فني أو تهيئة نفسية كي يتقبلهم الناس المتعطشون لخبر يريحهم , وكي لا تحدث حالات تقيؤٍ أمام الشاشات ( لم يحدث ذلك هل تعلمون لماذا ؟ ) الإجابة واضحة فأغلب الناس يتبعون في الآونة الأخيرة نظاماً غذائياً قاسياً وهو حادٌ نوعاً ما إقتداءاً بما قاله العرب قديماً ( مكره أخاك لا بطل ) , ورغم كل ذلك فقد أدمن المتلقي على أن يتابع قناةً بعينها يحبها وتحبه ويقتنع بخبرها ولهجتها حتى وإن كانت طوارئية أحياناً فقد وجدت ضالتها في ذاك المتكيء مصطحباً معه طاسة الشاهي الأخضر ( وناقصة سكر طبعاً ) وتقدم تلك الفتاة أقصد المذيعة أو ذاك الخارج من صالة الحلاقة مباشرةً له الحلول ولكل مشاكله ( حلول نظرية ومؤجلة طبعاً ) و( إن غداً لناظره قريب ) فيخرج الليبي من بيته صباحاً على أنغام فيروزية على محطات الإف إم المحيرة من كثرتها  ( ومين ما يحب أغاني  فيروزو صباحاً ) وصاحبنا بمعنوية عالية ونشاطٍ زائدٍ لامثيل له حتى أن ردة فعله قد تكون إستفزازية تجاه الآخرين أحياناً وربما إيجابيةً أحياناً أخرى كل ذلك من فرط تفاؤله نتيجة ذلك العاجل الذي كان ينتظره على جمركجرعة مهدئة  , والوطن وحده من يدفع ثمن ذلك ( العاجل ) ( أرجو أن لا يفهمني الأطباء البيطريون بالخطأ لأنني إستخدمت مصطلحاً طبياً  ) , أما بنو البشر في بلادي فهم مسيرون برتم موزون على إيقاع تراتبي وممنهج كي تكون ردة الفعل معروفةً ومنتظرة تأخذ شكل الكلمة النابئة حيناً لتصل إلى الإشتباكات المسلحة حيناً آخر والتضحية حاضرةٌ بسبب ذلك العاجل أو الخبر الناعم المسموم , وبما أن المسألة ليست حديثة العهد بالليبيين أو بمعناً أصح الليبيون ليسوا حديثي عهد بهذا التفاعل الجنوني مع الإعلام في بلادنا لأنه تفاعل قديم تجاوز الأربعين سنة تقريباً أي منذ وصول جهاز التلفاز إلى البيت الليبي عموماً على أقل تقدير , غير أن الإعلام القديم كان محدوداً من حيث إنتاج المادة الإعلامية كماً   وكيفاً أما اليوم فقد بدأت لنا أشكالاً وألواناً  تسر الناظرين , والليبيون بعموم الحال ومن فرط وطنيتهم سماعون (بشد الميم ) للخبر والذي سرعان ما يترجم لفعل قد تكون له ردة فعل مقابلة يصبح حينها الخبر قد آتى أكله مباشرةً – وهو المطلوب –  كل ذلك بروح إيجابية وبحسن نية معهود لدى العامة وبطريقة سريعة بإعتبار أن مايصدر من التلفاز هو الحقيقة بشحمها ولحمها التي ينبغي إيصالها لمن ثقل سمعه أو أدار ظهره أو غرر به ولكي لايجرفه التيار فعليه أن يسمع بسرعة فمصلحة المعني بسماع  الخبر تهم حامله وقد يكون أخوه أو صاحبه أوجاره أو ( ولد عم جار خالته !!! ) وهي علاقات حية لدينا والحمد لله ولم تؤثر فيها حتى عوامل التعرية الطبيعية ولا غياب التغطية التي قاومناها وتغلبنا عليها بالجلوس ومحاولة الإتصال لفترات طويلة  , نعم نحن الليبيون حنونين جداً ونحب بعضنا بدليل أن بعض القنوات التي تسرح وتمرح في الفضاء وبلا قيد أو شرط أو قانون ينظم عملها بما يتناسب مع سيادة الذوق العام أصبحت عشرية في طبيعتها أخذاً ب ( اللي تعرفه خير من اللي ماتعرفاش ) حتى أن القناة قد إكتفت بعدد محددٍ أيضاً من الجمهور يكفي لأن يكون مؤثراً في المشهد  كما أنها إتخذت لنفسها عدداً من المحللين السياسيين والناشطين والإستراتيجيين بعينهم وخبيراً عسكرياً واحداً يخرجون علينا في قنوات بعينها والأدهى من كل ذلك هو خروجهم اليومي ولساعات ليست قليلة وبتكرار غير طبيعي  ( شنو المقااااااااااابللللللللللللللللل …؟؟؟!!! ) بالنسبة لي أحتاج لإجابة مقنعة وليس إنتقادٍ لرأيي أو تهجم فاليوم الإنفلات في إبداء الآراء  مكفول للجميع وبلا إستثناء     …        ما تحتاجه القناة عندنا اليوم هو لون أحمر وبقدر ما للون الأحمر من جاذبية للذكور غريزياً فهو على الشاشة وعندما يكون بالبونط العريض يكون جاذباً حتى لحاملات الشالات الحمر أنفسهن من الأخوات والبنات ووو غير ذلك كثير – كيف لا وهن أخوات الرجال – , المهم أن الخبر الملون بالأحمر قد حرك غريزة التلقي لدى المشاهد والمشاهدة وتكتمل مسألة التفاعل مع الخبر لأن شروط المعادلة التفاعلية قد توفرت والوقت لن يكون طويلاً لإحداث التفاعل فهي لحظة قصيرة وعواقبها وخيمة , وأشد ما يؤسفني عندما أشاهد برنامجاً مباشراً ومنقولاً على الهواء وعبر الأقمار الصناعية ( والكل يعلم تكلفة النقل الفضائي ! ) , أما  موضوع الحلقة فهو مستهلك كعلامات البلوغ لدى الشباب أو الآثار الفيسبوكية على إحداث الإكتئاب لدى طالبات الجامعة أو الحجاب وأثره في العملية التعليمية أو النقاب وإرتباطه بالممارسات الخاصة في المجتمع وما تحت الحجاب والنقاب … الآثار الجانبية للبولستر المستخدم في صناعة الملابس ( المعذرة هذا ليس من عندي )  ,   ناهيك عن البوتوكس وما أدراك ما البوتوكس كيف لا ومتطلبات العمل الإذاعي والتصوير تحتاج مكياجاً في بعض الأحيان حتى للرجال , وهنا يكونون كالمتشبهين بالنساء حسب رأي الفقهاء ( وهي من متطلبات العمل التلفزيوني والإعلامي عموماً وهو أمر من الناحية الفنية التصويرية معروف ومستساغ ويعتبر مكملاً للأداء الإعلامي   .

أيها الذوق العام : وأنا أقف إستعداداً في مكاني إحتراماً لك وتقديراً لمكانتك في نفسي وإدراكاً لأهميتك كنت أتمنى ! لك أن تعمل هذه القنوات على إنجاز مشروع وطني وخطاب إعلامي وطني يجمع الرأي العام ويوحد مؤسسات المجتمع المدني على جملة أهداف رئيسية يجتمع عليها الجميع وتصب كلها في مصلحة المواطن والمواطنة وما من شأنه أن يوحد أبناء الشعب الواحد على بناء دولة مدنية دستورية  … المعذرة أيها الذوق العام فقد سبقنا أولئك المتطورون في والمتحركون ببراعة بين طرف وآخر تجمعهم المصلحة الضيقة والحاجة إلى إحداث شرخ وطني يصعب لملمته وإن توفرت له أدوات الحل فالوقت الذي هو كالسيف سيكون طويلاً وحاداً … أيها الذوق الليبي العام : لك خالص إحترامي وتقديري ولك كل إهتمامي وتحياتي فربما تهت كما تاه غيري لأكتب هذه السطور ولربما بالليبي (يحرج) خوتنا الإسلاميين كما يصنفهم البعض من كلامي أو حتى خوتنا العلمانيين كما يصنفهم غيري ولكنني أقول لك أيها الذوق العام سؤالاً : هل وجد الليبيون أنفسهم في مستنقع التيهان أم أن التيهان هو الذي وجد ضالته في ليبيا الليبية  ؟ , هل غابت روح حسم كل ذاك الإشكال عن النخبة الوطنية التي يمكنها أن توفر حلولاً من الناحية الفكرية على الأقل بدلاً من هذا الضياع المصنوع داخل البيت الواحد  ؟ هل عجزت النخب الليبية عن التواصل فيما بينها وتقريب وجهات النظر أمام مصلحة الوطن أولاً قبل أي مرجعية أخرى أم أن البقر تشابه عليهم  ؟  أم أن بيئة مجتمعنا قد وصلت لما تنبأ به الشاعر السوداني المرحوم محمد الواثق يوماً عندما هجا مدينته أم درمان  )   …

قائلاً  :-  ”   حط الخمولُ بها واستحكم الضجرُ  ” ؟     .

 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :