حاورها :: سالم البرغوثي
لَا أعْتَرِفُ بِمُصْطَلَحِ الْأدَبِ النّسَوِيّ !
حوار/ سالم البرغوتي * قد لا أكون قارئا جيدا لروايات “عائشة الأصفر”، لكنني كلما قرأت لها شيئا، أشعر بالخوف، وتتسارع دقات قلبي، وينتابني الذهول والتشتت، تباغتك بالعناوين وقوة وصرامة الحروف، وكأنها نسجت في أزمان متباعدة، وبحاجة لمن يفكك رموزها، ويصنع منها رداء عصريا يليق بالحاضر.
“عائشة الأصفر” روائية استثنائية فوق العادة، تمارس الاحتراف بجنون الهاوي، لحرفها هوية وشخصية متفردة وكأنه محفور في ذاكرة ووجدان الوطن، ينقصني الكثير للحديث عن عائشة، وينقصني الكثير لمحاورتها وسبر عمقها الجنوبي، كان ذلك أشبه بالمهمة المستحيلة رغم أنني لم أقتل “الكلب”، ولم أغتصب “محظية”، وكنت عاجزا عن إكمال ” النص الناقص”، لكنني سأخوض هذه التجربة مطمئنا لتواضعها، ومتأكدا من أنها ستفتح لي أبواب المعبد، للولوج إلى عالمها الروائي والفلسفي، فأنا على يقين أن لعائشة الأصفر رؤية فلسفية واجتماعية، خارج إطار الرواية. ــ هَذِهِ الثّقَة كِسَاءٌ فَخْمٌ وَكَبِيرٌ كَيْفَ أمْلَؤُهُ؟ أتَمَنّى أنْ تُرْضِي كِتَابَاتي ظنكم وقرائي
تَكَادُ الأوْرَاقُ البَيْضَاءُ أنْ تَحْتَرِقَ مِنْ شِدّةِ وَهَجِ التّوْصِيفَاتِ، وَالخَيَالِ وَالعُمْقِ فِي كِتَابَاتِك.
من أين تستمد عائشة الأصفر كل هذا التألق والإبداع؟ ــ لا أظنني أختلف في هذا عن أي كاتب، فالورقة تستمد حرارتها من أرضيتها التي تتكىء عليها، وتتقمص منها تضاريسها، لم يكن والدي ذا كرسي في الدولة، وما كان ضمن ذوي الأملاك المتضررين من قانون 4، لكنه هتف مع الطلبة في سبها وسط تظاهرات 66 بزيّه العسكري (اتحاد طلبة.. يسقط البوليس)، ثم مع حلول الظلام ثلاثة شباب، مجلات وسجائر، ووشوشات بتسليم الأمانة، ووعد وتوديع، هتف، ولم يُفلح الانضباط البوليسي الذي ألبسه زيّه الصارم منذ أوائل الخمسينيات في طرابلس في تعديل نبضه، فحُجِبتْ ترقيته طويلا دون زملائه من ضباط الشرطة، ولولا ضعف الوشاية لحجبت روحه أيضا.
عَلَيْنَا أنْ نَهْتَمّ بِتَجْدِيدِ الْأدَبِ وَتَحْرِيرِهِ مِنْ سِجْنِ المُصْطَلَحَاتِ
كنت أستمع معه إلى صوت العرب، ونشرة الثالثة من إذاعة لندن، وأقرأ له ما كتبته في حصة الإنشاء، وشعر المهدوي، وأسمعه يقول لصديقه ـ لا تصدق أننا أحرار، نحن تحت حكم القواعد، وعندما طلبنا منه للمربوعة صالونا إفرنجيا، ابتسم وقال ـ (وأين سينام الضيوف؟) ـ. ترك جدي “بني وليد” نحو الجنوب، على ألا يرضخ لإتاوة الترك، وعندما حوصر مع أعيان وادي الشاطئ رفض عرض محاصريهم أن يغادرهم حيا (باعتباره غريبا عنهم)، فمات بينهم حرقا، اقتيد خالي من الشاطئ إلى سجن قلعة “مرزق” متهما بإيوائه المجاهد ” عبد الله بن مسعود”، قائد معركة ” قاهرة سبها” والتي استشهد فيها، عاش خالي بعدها مطاردا لمعارضته الحكومة، يزورنا خفية، يشرب الشاي واقفا في عجالة، يعانق أمي، تنتحب، فأدمع كما الآن، الفرق أن لحظتها لم أكن أعرف السبب، أما الآن فالدمع أكثر مرارة، أنا بنت الشمس وأم التوتر، ولدتُ في بحر طرابلس، وصقلتني شمس سبها، وألهمتني مدرجات “قاريونس”، أكتب للأرض، وللشجر، وللّيل، وللبؤساء، وأبحث عن الشبيه، ومنهم أتنفس كتاباتي.
ما يسمى بالأدب النسوي هل هو كيان ولد مشوّهًا وفشل في المواجهة أم هي حالة للتحرر من قبضة الأدب الذكوري؟ أم عائشة الأصفر لها وجهة نظر مغايرة تماما؟
ــ الحقيقة هذا المصطلح أوْلَاهُ الكُتّاب اهتماما أكثر مما يستحق، يعرّف البعض مصطلح (الأدب النسوي) على ما يحمله النص من طرح لقضايا تخص المرأة ومشاكلها، دون النظر لجنس الكاتب رجلا كان أو امرأة، على أن منهم من يرى أن المرأة أقدر على البوح بتفاصيل بنات جنسها، وهنا لا يحمل المصطلح تمايزا عن الأدب الإنساني. في حين يعرّفه فريق أنه الأدب الذي تكتبه النساء دون الرجال، ليطفو على السطح التمايز والتفريق في الأدب، وهذا ما استفز أصواتا نسائية رافضة المصطلح جملة وتفصيلا، رأيي الشخصي في مصطلح ” أدب المرأة ” بسيط، فإذا كان التصنيف حسب ما يحمله النص فأيضا بالمقابل سنسمي كل نص يختص بمشاكل الرجل وخصوصياته ” أدب الرجل”. وإذا جاء التصنيف تمايزا في الأدب الإنساني، باعتبار أن “أدب المرأة” هو النصوص التي كتبتها النساء دون الرجال، فلم يمنع أحد أية ناقدة أن تكتب عن النصوص التي كتبها رجال، تحت عنوان (الأدب الرجالي) لفك هذه العقدة، إما بالتماثل أم بالكف عنها.
أما ادعاء أن المرأة أقدر على البوح بخصوصيات النساء والتعبير عن أفكارهن، فسنقيس عليه أن الرجل أيضا هو الأقدر على البوح بخصوصيات جنسه. ويبقى هذا الأمر نسبيا عند كليهما، بدليل وجود روائيين رجال نجحوا في الكتابة بلسان المرأة، والعكس فقد كتبت الروائيات على لسان الرجل، أنا شخصيا لدي،ّ أربع روايات من أصل خمس، السارد فيها رجل، بما فيها أول رواية لي ” اللي قتل الكلب” 2007، لا أعتمد التعامل بحدة مع المفاهيم ووجهات النظر، علينا أن نهتم بتجديد الأدب وتحريره من سجن المصطلحات، الإنسان صار يغير جنسه وجلده وحتى جيناته، أرى يجب ألا يفهم مصطلح الأدب النسوي باستقلاليته عن الأدب الإنساني بقدر ما يعني تتبع مواكبة المرأة للأدب ومساهمتها فيه.
ما سبب غياب الرواية الليبية عن الجوائز العربية، رغم قيمتها الفنية العالية، مع أن الأعمال العربية الفائزة عند قراءتها ووضعها على طاولة النقد نجدها أعمالا عادية؟
ــ بداية.. لا يمكن وصف رواية حصدتْ الفوز بالعادية، النّص المتميز يفرض نفسه، خاصة في زخم هذا التنافس والتجديد الإبداعي المتسارع، وخضوعها للجان تحكيم متخصصة، وفي الوقت نفسه أتفق معك بأنه قد توجد روايات مؤهلة للفوز لكنها خارج المشاركة، لأسباب أظنها تخص الناشر أو الروائي نفسه. الرواية الليبية لم تغب عن المسابقات بقدر غيابها عن القراء أنفسهم سواء داخل أم خارج ليبيا لأسباب تقنية وإعلامية، وحضور خجل للحركة النقدية، وأشيدُ هنا بالمختبر النقدي مصراتة على نشاطه المبرّز بالساحة النقدية، وتأهيله لكوادر ناقدة بامتياز من الشباب الأكاديمي، زد أن القارىء في منطقتنا رغم ذائقته الفنية العالية لكنه لا يثق في قراءته، وفي كثير نجده ينتظر حكم الكبار ويتبناه، ما يجعله يعزف عن قراءة ما لا يشار إليه منهم.
النَّصُ المُتَمَيّزُ يَفْرِضُ نَفْسَهُ، فِي زَخَمِ هَذَا التّنَافُسٍ وَالتّجْدِيدِ الْإبْدَاعِيّ المُتَسَارِعِ
واليوم القارئ مشغول بما هو أهم من القراءة، ولديه روايته البائسة وحده. إلا أن الرواية الليبية شاركتْ وبجدارة في الجوائز المعروفة، تقلدتْ بعضها وتقدمتْ في قوائم أخرى، ونراهن على وصولها قمة الجوائز قريبا.
ما تقييمكِ للمنجز الروائي الليبي فنيا؟ وما الذي يحتاجه للانتشار؟
التقييم الفني للمنجز الروائي الليبي أمر منوط بالنقاد المختصين، ومن الرسم المضيء نلمح الصورة المزهرة للنتاج الروائي، وانفتاحه على المسابقات، وتسجيل حضوره في معارض الكتب رغم تواضع هذا الحضور، الواقع أن المنجز يحتاج إلى الكثير من الدعم، بدءا بصاحبه، الكتابة الإبداعية مرهقة ذهنيا، والمبدع بطبعه إنسان مرهف ومزاجي، ويتعامل مع الواقع بطريقة مختلفة، وبحساسية شديدة، الكتابة تحتاج صفاء ذهنيا، إلى خلوة وتركيز، وحرية، كيف يبدع رهين الخوف والحرب والجوع والنزوح؟ النص أيضا بحاجة لمن يقدمه إلى القراء والمهتمين بعيدا عن المجاملات الأدبية، يحتاج حلحلة إشكاليات دور النشر، الساحة تكتظ بالأقلام الأدبية الواعدة، تترقب التفاتة تشجيع.
نَحْتَاجُ الكَثِيرَ لِنُصْبِحَ بِخَيْرٍ، وَنَاظِرُونَ صُبْحًا قَرِيبًا.
كيف هو حال الرواية الليبية التي تكتبها المرأة؟ هل عبرت عن قضايا المرأة وتطلعاتها نحو أفق أعلى من الحرية المتاحة لها؟
واكبت المرأة الكتابة الروائية سريعا، وتميزت بناءً وتقنية وطرحا، تجاوزت المفهوم الضيق للقضايا الاجتماعية إلى الأبعد، قضاياها اليوم هي قضايا الإنسان في مواجهة الهيمنة الأيديولوجية، والحرب، والإقصاء بأنواعه، والعنف، وخطر التبعية والانكفاء على الجاهز.
مسؤوليتنا ككُتّاب استثمار أية مساحة، نزرعها بالتسامح وقبول الآخر عرقا وفكرا، نرسخ أن ليبيا واحدة، ولا أمن لها إلا بأمن كل أرضها ومكوناتها، وإن دم الشباب المفقود والمبتور استنزاف لليبيا كلها، لنا الحرية أن نفخر بعرقنا عربًا وأمازيغَ، طوارقَ أو تبو، لكن انتماءنا الأكبر لليبيا.
خاضت عائشة الأصفر تجربة الطيران وحلقت عاليا، هل كانت هذه التجربة الشجاعة والفريدة والمتميزة رافدا في التحليق المتميز على مستوى الرواية؟
تبا للعقل، لا شيء يمنع الإنسان من التحليق إلا العقل، نحن في حاجة إلى لحظات جنون لنشعر بالحرية، الجنون يحررك من الخوف وسلطة الحدود ومغبة العواقب التي يصورها لك عقلك، ولذا الأكثر تحررا في هذا العالم هم الأطفال والمراهقون والمتصوفة، ومن اُتهم منهم بالجنون وصل مرتبة العلماء والأنبياء والفلاسفة.
ومضةُ حرية هي تلك اللحظات، التي انعتقت فيها من التراب، وكنت وحدي بعيدا عن أسقف البيوت والطرق المعبدة والترابية المليئة بالحفر، سارحة بسعادة وأنا أرسم (بخشم) الطائرة خطًا مع الأفق أميل معه كما فرجار وأنتبه لنفسي (تبا لكِ، أنت مُعلّقة، كفّي عن اللعب)، لأهبط أعلق بالطين والتلقين.
كبرتُ.. وصار كابوسي معادلة الجبر تلك ذات البسط الطويل والمقام الأطول، تباغتني، أنتفض لأشرب الكثير من الماء والهزيمة، لم أستوعب من الجبر إلا المعادلة ذات المجهول الواحد، واستعصت باقي المجاهيل. كبرتُ، طغى كابوس حقيقي على كل المعادلات وعلى كوابيس “فرويد”، تعملق الكابوس لبس كل الكوابيس، صار رواية عنوانها “وطن” وصار التحليق بأجنحة مثقلة.
كَيْفَ أطِيرُ وَبَيْنَ جَنَاحَيّ كُلّ هَذَا الوَطَنِ؟!
يقول الدكتور محمد شاهين في كتابه آفاق الرواية البنية والمؤثرات، إن مشكلة الراوي تكمن في قدرته أو عدم قدرته على اختيار الزمن الذي يقص فيه قصته والزمن الذي يقول فيه ما يريد وصفا أو تقريرا. ما مدى صحة هذا القول لو عكسناه واقعا على رواية “اغتصاب محظية” أو خريجات قاريونس؟
نعم قدرة الروائي تظهر من خلال براعته في اللعب بالزمن، والذي هو محور مفصليّ في بناء الرواية، سواء كان زمن الرواية العام، أم الزمن الداخلي المختص بالسرد، والذي بدوره يتخذ أنماطا حسب تناوله للأحداث.
رواية ” اغتصاب محظية” هي رواية اليوم الواحد، فالسارد “زايد” لم يغادر مكتبه داخل شركته ذات دوام، منتظرا مرور حبيبته “الجليلة” طيلة سرده للرواية، والذي كان فيه الزمن متشظيا وحرا، ولم يخضع لأية قواعد تتابعية.
كروائية للزمن عليّ سلطة لا إرادية في الولوج للرواية، إنه يتسلل بطريقة لا أعيها، ولا أخطط لها مسبقا. تقودني الرواية حتى ترسم نهايتها التي لم أتنبأ بها. عموما جدلية الزمن شغلت اهتمام النقاد وهم وحدهم المعنيون بالحكم على الزمن الروائي في أية رواية.
نَحْنُ فِي حَاجَةٍ إلَى لَحَظَاتِ جُنُونٍ لِنَشْعُرَ بِالْحُرّيَّةِ
قرأت “اغتصاب محظية”، أحيانا أتلمسها فتاة، وفي أحيان أخرى شارع أو مدينة، وأحيانا عبودية وسجن وقهر وظلم. هل أنا مخطىء في قراءتي؟
ولو لم تتخيلها كذلك لما كانت رواية، كلّ يقرأ الرواية من زاويته ويضيف إليها، مهمةُ الرواية طرحُ الأسئلة، ولا يُنتظر منها تقديم إجابات.
يهمني معرفة رأي عائشة الأصفر الكاتبة والمرأة في قضايا حرية المرأة، هل هناك حدود لحرية المرأة وهل تعتقدين أن هناك خصوصية لحرية المرأة الليبية وفق خصوصية المجتمع الليبي القبلي؟
هذا سؤال متعدد ومتسع.. الحرية هي أن يكون فعل الإنسان بإرادته دون إكراه من أحد، وهي وإن كانت مطلبا لكل فرد فإنها مفهوم نسبي. ولأن الحرية نقيض العبودية، فهي لصيقة بالقوة والضعف، القوة المتمثلة في السلطة، سلطة الحاكم والقانون، أو سلطة الدين، سلطة الاقتصاد، أو سلطة العقل المتفوق وهيمنته على العقل المتدني، ومنذ بدائية الخلق تربى الضعيف تحت سيادة القوي حماية وتبعية، واستمر ذلك على مستوى الأفراد أو الجماعات وحتى الدول. هذه العبودية والتبعية قوّضت فعل العقل الذاتي، فصار صاحبه في حاجة دائما إلى مرجعية تفكر عنه.
ومن هنا أقول لا مكان لمنجز الحرية في مجتمعات تُخْصي العقل ومستعبدة فكريا. كيف توجد قضية مستقلة لحرية المرأة، إذا كانت الحرية في أوطاننا قضية مجتمع؟ إلا إذا كنا سنتناولها كعنوان فرعي كقضية (المجتمع الذكوري)، أو (كيف يفكر الرجل)، أو (أطفال الحرب)، لا توجد قضية (مستقلة) لحرية المرأة، توجد أزمة عقل، وشخصية إنسان محكومة بموروث ثقافي جمعي، يؤثر في لا وعيه سلبا أو إيجابا. وكانت المرأة هي الحلقة الأضعف، لا تخرج عن رغبة العائلة أو الزوج. والمُفارَقة أنها الحلقة التي تشدّهم إلى أرضها الثابتة التي يعودون إليها بعد كل ضياع.
ولأن الشعور بالحرية أمر نسبي، فبعض النساء لا يشعرن بالظلم حتى لو تعرضن للتعنيف النفسي والجسدي، في حين تعتبر أخريات أن مجرد منع المرأة من الخروج متى تريد، أو عدم مشاركة الرجل لها في تنظيف البيت استنقاصا لحريتها. بالتأكيد للحرية حدود باعتبارها مفهوم نسبي، ما يعني أن الحرية المطلقة لفرد أو جماعة قد تجعله حرا لدرجة استخدامه القوة ضد غيره، القوة التي استمد منها حريته. فعلى الإنسان رجلا كان أو امرأة، أن يؤمن بحرية غيره ليضمن حريته، إن الحرية ليست فقط فعل ما نريد دون إكراه بل الامتناع عن فعل ما يلحق الأذى بالآخرين بإرادتنا أيضا.
ومتى ضمنت المرأة حقها القانوني، فهي حرة في أن تقبل بواقعها، أو تتمرد على سالب حريتها، موروثا كان، أو أي ذي علاقة سلطوية، لكن على المرأة ألا تخلط بين الإكراه الممنهج، وبين عائق فرض نفسه كالأمومة.
نعم لمجتمعنا الليبي كما لغيره من المجتمعات أثره في خصوصية المرأة والرجل، ليس لأنه قبلي بقدر ما لأنه محافظ. ولأنه كذلك فلستُ مع المغالاة فيها أي الحرية، على حساب تفكك أسريّ أو مجتمعيّ. لا قيمة لحرية تُسقط من حساباتها علائقية الأب والأخ والزوج تحت مسمى ” مجتمع ذكوري”، سأضرب أمثلة محايدة تجنبا لأي اتهام، للمرأة أن تطالب بنفس الحقوق التي منحها الدستور للرجل، في تقلد المناصب، والعمل، الانتخابات والأحزاب، خيار التعليم، الحرية الدينية والفكرية، وما ضمنه لها قانون الأحوال الشخصية في السبعينيات، وبكل ما للرجل من حقوق المواطنة، أما غير هذا كالمطالبة بالحرية الخارجة عن الذوق (العام)، فإن لنظرة المجتمع حقا علينا، أعلم أن هذا وصف نسبي لكن لا أحد غافل عن مقاييسه. ندرك أن الموروث الثقافي يتراكم ببطء، وسيتغير ببطء كذلك، ولا يمكن انتزاعه أو استبداله قسرا، فتحدث هوة ثقافية مستهجنة، يتبدل “المتغير”، مع عجلة التاريخ، فالنظرة السلبية تغيرت بتغير الظروف الاقتصادية، والحاجة الملحة لعمل المرأة مثالا، فلا مناص من ركوب الحافلات المختلطة، وقيادة السيارة والعمل بكل ما يتوفر لمواجهة ترمل الحرب، والنزوح، توفر شبكات الاتصالات والتواصل الاجتماعي صوتا وصورة، قرب المسافات بما له وما عليه، مجتمعنا بخير، نعم بخير رغم كل المظاهر الكارثية، برهن أنه مجتمع أصيل، لعشر سنين يقود دولة فارغة من الدولة، ويؤمن شوارعه بلا أجهزة أمنية، في وقت مفتوحة فيه حدوده لشبكات الإرهاب وعصابات بيع البشر والهجرة غير الشرعية، سنتجاوز قضايانا الاجتماعية بالحب واحتضان الآخر، الرجل يعاني كما المرأة وأكثر، هو أيضا يهان ويضرب ويبتز، عاجز عن عمل، عن حبيبة، عن زواج، عن رغيف لأسرته، يقول المثل ( شوي من الحنة، وشوي من رطابة ليد)، فبقليل من اللين والتسامح وغض الطرف سنعبر إلى الأفضل. أما حرية المرأة الكاتبة فلا تتجزأ عما قيل هنا، الكتابة فعل الحرية وإلا لا معنى لها ولا إبداع، الكتابة انعكاس لفكر الكاتب، وآليته العقلية، وصوته الداخلي المكتظ بأصوات الجميع، وتتحدث الكاتبة بصوت المقهور والمتسلط، الطاهرة والعاهرة، البسيط والمثقف، وعليها بطريقتها خلق حرية الكتابة.
هل ترى عائشة الأصفر في كتابات بعض الروائيات جرأة حد التجاوز، أم أنه يأتي في سياق المسكوت عنه فيما يسمى بالأدب النسوي؟
هنا أيضا ستجدني أصف التجاوز بالنسبي، فما نراه نحن جرأة قد يكون عند آخر أمرا عاديا. سواء في الجنس أو الدين، أو التمرد على الثقافة الاجتماعية، يستقبل المتلقي ذلك كما في الأفلام، نحن لا نجد غضاضة من مشاهدة فيلما إباحيا أجنبيا، فماذا لو استبدلنا مؤلفه بروائية ليبية، وشخوصه بممثلات ليبيات؟ للتجاوز دواعيه، قد تكتب روائية بجرأة تلقائية عفوية نابعة من ثقافتها الشخصية، وأخرى تمارس الإباحية لغرض دعائي تجاري، أو تربطها بالتحرر، أو ربما للفت الانتباه، والقارىء لديه حاسة قوية لتمييز كل ذلك. فالنص أنفاس الكاتب. بيد أن الإبداع لا علاقة له بالإباحية، ليس الإبداع مجرد الخروج عن المألوف، بل بالطريقة التي يتناول بها هذا الخروج.
في روايات عائشة الأصفر أشعر أن طوفان الحروف والكتابة لا تكفيها لفعل الكتابة. بمعنى أن الأفق يضيق بما تريد قوله. ــ ذكرني كلامك بجملة قالها لي موجه اللغة العربية بالصف السادس أظن اسمه “الشريف”، له السلام أينما كان. قال لي (يا بنتي انت مش طبيعية، يجهز الرد في راسك بسرعة دفعة واحدة، مسكين لسانك)، وأعادها لي أستاذي في اللغة العربية، بالثاني الإعدادي الفاضل “علي شبو” من السودان الشقيق (رأسك مشحون بطاقة رهيبة جدا). صدقتْ، بداخلي طوفان لا يكفيه فعل الكتابة، ربما قصور في التعبير، ربما لا وجود لمساحة تتسع لما هو كائن.
أجد نفسي مضطرا لسؤالك بعد استقراء وقراءة، أن الروائي الليبي لا يقرأ لروائي من بلده إلا إذا كانت مهداة إليه من صاحب الرواية او نالت اهتماما عالميا، هل في ذلك خلل؟
عن نفسي أثق في كل صناعة وطنية، قرأت روايات كانت أول نتاج لروائيين / ات ليبيين، وعرفت أسماءهم من خلال نصوصهم وليس العكس، وأبهرتني دون انطباع مسبق من أحد، وكانت رائعة تضاهي غيرها في بلدان أخر، وسعدتُ بعد ذلك بفوز هذه الروايات بجوائز الشارقة، في حين وللأسف لم أقرأ إلا بعض الروايات التي فازت بالبوكر وغيرها ولم أعتمد اهداء رواياتي إلا لمن طلبها مني، أو أعدّ فيها قراءة. وأتشرف بهم وبكل قرائها.
عائشة الأصفر تقف على أرضية أدبية صلبة ومتمكنة من أدوات العمل الروائي المتكامل، ما الذي يمنع وصول رواياتك للبوكر؟ وهل هناك فيتو عربي على الرواية الليبية؟
ثقة غالية أرجو أن أكون في محلها، تمنيتُ أن تشارك رواياتي في هكذا مسابقات، ليس ثقة مني في كفاءتها، ولكن لأن مجرد المشاركة في المسابقات تُعطي الرواية زخما، وتلفتُ الانتباه إليها كما ورد منك في سؤالك السابق، وحقيقة حاول ناشرا “اغتصاب محظية”، و” النص الناقص” مشكورين الدفع بهما، لكن لظروف نشأت، لم يسعفهما الوقت، عسى أن وصلت الرواية الليبية في دورات سابقة القائمة القصيرة للبوكر، ونأمل أن تكون البوكر ليبية هذه الدورة.
كثيرون يقولون إن مجرد وصول الرواية الليبية إلى البوكر هو حدث في حد ذاته، أليس ذلك تشكيكا في قوة الرواية الليبية؟ لا شيء يمنع وصولها طالما أن الرواية الليبية لها تاريخ وقواعد، روايات “الكوني” والمرحوم”الفقيه”، والعلكة ل “منصور بوشناف” وغيرها.
الإشادة بوصول الرواية الليبية لقائمة البوكر واعتباره بذاته حدثا، ليس تقليلا من شأنها بقدر ما هو احتفاء بجدارتها،
معك.. للرواية الليبية أساساتها، كل التقدير للمتألقين الكبيريْن “الكوني” و”بوشناف”، ورحم الله الكبير” أحمد الفقيه”. وتحية لأسماء كبيرة أخرى لا يسعني ذكرها كلها هنا. الرواية الليبية نحو تفجّر إبداعي، وتنبّه نقدي قريبا.
عائشة الأصفر فتحت لي الأبواب والنوافذ، لأتسرب إلى عقلها وإبداعها ببساطة، وكأن بيني وبينها شعرة معاوية، شدة في غير عنف، ولين في غير ضعف، أتصور أن بناء الرواية عند “عائشة الأصفر” كبناء كاتدرائية لها شكل خاص، يختلف عما جاورها من الأبنية. “عائشة الأصفر” تهيمن على الحرف، وتسيطر على الكلمة، بطريقة احترافية وتقنية عالية، وفي اعتقادي أنها لا تشطب ما تكتب لتعيد صياغته من جديد، لديها استعداد ذهني يمكنها من الكتابة على الهواء قبل الكتابة على الورق. شكرا عائشة الأصفر. ــ كل التقدير المتألق سالم البرغوتي/ الحب لفسانيا. يكون خيرا.