الشبيه

الشبيه

عاشور أحمد

في أكبر الفيالق وأقواها يقضي رجل  برتبة جنرال معظم اوقاته في تسيير أمور العسكريين بكل عفوية وتواد وتعاطف كبير..

يعامل كل الرُتب الأقل منه والجنود كذلك بكثير من الإحترام..سَرتْ في المعسكر حالة من الارتياح  اتَّجاه آمر هذه الكتيبة الكبيرة القتالية، لكن كانت هناك حالة أخرى من الاسْتغراب عن هذا التَّبدل المُفجائي في سلوكه.. ابتسامة لا تفارق محياه..يُلقي التحية على من يصادفه..لا يأبه للعلامات القائمة على أكتاف الضباط ..عفوية في التعامل مع الجميع..يسمع ويحاور..يشارك جنوده أفراحهم وأتْراحهم..هذا الأمر لم يعرفه مقاتلو الكتيبة من قبل.

الاستغرابُ في المعسكر كان يرافقه استغرابٌ آخر في منزله، قالتْ امرأة قد تجاوزتْ العقد الخمسين من عمرها:

– أرى أننا أصبحنا على ما يرام الآن، فقد انقلب أبوكم إلى إنسان طيبِ المعْشر.

نطقتْ الابنة الارْملة التي تنظر إلى صورته الكبيرة على الجدار المقابل:

– هذه الحرب اللعينة يبدو أن لها قدرات عجيبة على تغيير طِباع البشر، كما أن لها القدرة على حصد أرواحهم.

أطرقت الأم وعقَّبتْ :

– انتهتْ الحرب الآن، ولعل بانتهائها يعمُّ القلوب السلام.

كان أحد الأبناء يرقب الحديث في صمت غير أنه أضاف:

– ولكنه لا يؤم البيت إلا قليلا، وفي حضوره يجلسُ وجلاً، حذرٍّا، متوجسًا..  قليل الكلام،..صحيح أنه أفضل الآن، ولكنه أكثر بُعدًأ.

شعرت الأم بارتباك ثم تمْتمتْ: علينا أن نصبر قليلًا فقد صبرنا الكثير،  ففي الحرب يغيبُ المنطق وتختل موازين العقول والأجساد.

ما كاد يصلُ الجندي برتبة عريف إلى ذلك الكوخ المهجور المُنعزل على الحدود البعيدة للبلاد حتى أَرَاحَ عن كَتفه المُتعبة جسد ذلك الجنرال الذي يقوم على خدمته بعد أن قصفتْ الطائرات المُعادية مقر القيادة وراء ميدان المعارك الذي يبعد ثلاثة فراسخ عن وجود الجنود المقاتلين المساكين..

الجنرال فاقد الوعي، جروح غائرة وساق مبْتورة..بقايا ثياب قديمة رثة ربطها باحكام على أماكن النَّزف..أَسَالَ على وجهه ماءً من قنينة نزعها من خاصِرته..اضْجَعه وغطَّاه بِمِعْطفه الخشِن..تمدَّدَ إلى جواره.. خفتْ صوت المعركة..قفزتْ إلى ذِهنه ذكريات..أخذَ يعيدها..يصنِّفها.. يحاولُ أن يسْتحظرها كلها، الأقدم فالأحدث..

كان شابًا يافعًا ساقته قِلة حاجته ووِحْدته – لا قريب ولا معين- إلى أن يكون جنديًا أضاعَ سنوات في خوض غِمار حربٍ لا يعرف أسبابها..جرَّدته قسوة الحياة من كل شيء فأصبح ورقةّ صفراء هشة، ولولا الأقدار  لكان صريعٍا بأول برصاصة عابرة.

غَفَا..صَحَا فجرًا.. تفحَّص جيدًا الجسد المسْجي بلا حِراك..ظهرَ له رابطٌ قوي يربطُ بينهما لم يتفطن إليه سابقًا..شعور مُريح اعْتراه..قفزَ مبْهورًا..لمعتْ عيناه.. لامَسه..أحسَّ ببرودة يديه..جرده من بزته..طَبعَ قبلة على جبينه..أشعل النار في الكوخ وغادرَ مُسرعًا.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :