العيب العقلي (الكلي – الجزئي )وأحكامه بقانون العقوبات الليبي

العيب العقلي (الكلي – الجزئي )وأحكامه بقانون العقوبات الليبي

  • أحمد ونيس المكي
أحمد ونيس المكي

مقدمة

إن لقانون العقوبات, أو القانون الجنائي, أو الجزائي كما يروق للبعض تسميته؛ مكانة كبيرة ومؤثرة بين أقسام وفروع القانون… فهو عصب الردع الذي يحمل الناس على احترام القاعدة القانونية والشعور بإلزامها. اضافة إلى أهمية قانون العقوبات بالنسبة للطلبة والباحثين؛ سيما الإلمام بالظروف التاريخية لنشأت وتطور القاعدة العقابية وهو الأمر الذي بدوره ينمي القدرة على التحليل والتفكيك  الجنائي ويكسب الدارس ملكة قانونية عقابية.

المطلب الأول:-

أولًا- التعريف بقانون العقوبات:

هو مجموعة القواعد التي تسنها الدولة وتحدد فيها الافعال التي تعد جرائم وتبين العقوبات المقررة لها. فالدولة باعتبارها المسؤولة عن المحافظة على المجتمع لها الحق في فرض القواعد التي تضمن لها استتباب الأمن ومكافحة كل ما يعرض سلامته للخطر. وذلك بمنع كل نشاط لا يتفق مع المصلحة العامة وتوقيع عقوبة على المخالف.

واشتقت تسمية قانون العقوبات من لفظ العقوبة التي تعتبر وسيلته في مكافحة الجريمة. وقد اعترض بعض الفقهاء على تعبير قانون العقوبات استناداً إلى انه لا يشمل التدابير الوقائية التي تهدف إلى وقاية المجتمع من خطورة المنحرف, واصبحت تحتل مكاناً هاماً في كافة التشريعات الجنائية الحديثة. كما انه لا يشير إلى قواعد التجريم التي يتضمنها, حيث ان العقوبة لا تشكل سوى الجزاء الذي يوقع على مرتكب الجريمة.

وعلى ذلك اقترح باطلاق اصطلاح القانون الجنائي عليه نسبة إلى الجناية اخطر انواع الجرائم التي يتضمنها؛ وهي تعبير عن الجريمة بصفة عامة. وذلك على أساس انها تكون الأصل باعتبارها الفعل… أما العقاب فهو الجزاء أي (( رد الفعل )), ولا يصح ان يكون للأثر الغلبة. ولكن هذا الاتجاه بدوره لم يخلو من النقد لأنه لا يشير إلى الجزاء سواء أكان عقوبة أو تدبيراً وقائياً. كما ان الجناية ماهي الا احد أنواع الجرائم التي يتضمنها القانون. ويصبح هذا التعبير عديم المعنى بالنسبة للتشريعات التي تأخذ بالتقسيم الثنائي إلى جنح و مخالفات, أو تلك التي تكتفي بتوقيع العقاب ولا تفرق بين أنواع الجرائم.

وفي الواقع كلا الاتجاهين مبالغ فيما ذهب إليه لأنه يغفل جانباً من الحقيقة.

فبينما يقتصر الأول على العقوبات فإن الثاني لا يشملها. ولو أردنا الدقة لأطلقنا قانون العقوبات على القواعد التي تحدد الأفعال المعاقب عليها, والقانون الجنائي على القواعد التي تحدد الأفعال المعاقب عليها. ولكن جرى معظم الفقهاء على استعمال كل من الاصطلاحين المذكورين كمرادف للآخر… نظراً لأن الجريمة والعقوبة فكرتين متلازمتين؛ فأحدهما يدل على الثاني ويغني عنه للايجاز في التعبي. كما أن الجناية هي أخطر أنواع الجرائم ومن المقبول تعريف الكل بجزئه الأهم.

ثانياً-قانون العقوبات فرع من القانون العام:

وفقاً لنوع المصلحة التي تحميها القواعد التشريعية بقسم القانون إلى عام وخاص. فاذا كان موضوعه المصالح العامة التي تهم المجتمع ككل مثل تلك المتصلة بالمحافظة على كيانه؛ فإنها تتعلق بالقانون العام. اما اذا كان موضوعه المصالح الخاصة التي تهم الفرد مثل: ( تلك المتصلة بعلاقاته المالية والعائلية؛ فإنه يتعلق بالقانون الخاص ).

وقد اثير خلاف حول طبيعة قانون العقوبات… فذهب البعض إلى انه يعتبر فرع من القانون الخاص نظراً لأن اغلب قواعده ترمي إلى حماية حقوق الأفراد في أشخاصهم وممتلكاتهم.

ولكن الرأي مستقر الآن على ان قانون العقوبات يكون فرع من القانون العام, لأن اهم ما يميزه هو ان جميع المصالح التي يحميها تتعلق بالمجتمع ككل. واذا كانت تظهر مصلحة الفرد احياناً بأنها المقصودة بالقاعدة لأول وهلة؛ فإنه مع تعمق النظر يتضح ان الشارع لم يتدخل إلا لحماية – حق – قدر اهميته للمجتمع ثم الفرد. فتحريم القتل أو السرقة لم يقصد به مجرد حماية القتيل أو صاحب المال؛ بل إنه يهدف في المقام الأول إلى حماية حق الإنسان في الحياة والمحافظة على ما له. كما انه ينظم العلاقة بين الدولة كسلطة عليا والفرد باعتباره مرتكب الجريمة.

ولا يقدح في ذلك ان الشارع في بعض الجرائم يعلق تحريك الدعوى على شكوى؛ كما في السب والقذف والزنا والسرقة بين الأصول والفروع والأزواج, او ان رضاء المجني عليه في جرائم معينة يزيل عن الفعل صفته الاجرامية كاتلاف المنقول بموافقة مالكه, حيث روعيت فيها اعتبارات خاصة, لأنه قد يترتب على السير في الدعوى ضرر يمس سمعة المجني عليه فترك له القانون تقدير ما يراه مناسباً لمصلحته, أو ان الفعل يمس حقوقاً يستطيع صاحبها التصرف فيها مما ينفي عنه صفة العدوان اذا تم بموافقته.

ثالثاً- علاقة قانون العقوبات بفروع القانون الاخرى:

تربط قانون العقوبات علاقات وثيقة بمختلف فروع القانون حيث انه يقدم لها الجزاء الذي يكفل احترام قواعدها حتى تتمكن من تحقيق الهدف الذي تسعى إليه. فيعتبر بمثابة الوسيلة التي تتزرع بها الدولة لحماية نظامها الاجتماعي والحقوقي والاوضاع التي تقرها. ويتجه جانب من الفقه إلى القول بأن قانون العقوبات هو قانون تابع لفروع القانون الأخرى: كالقانون المدني, والقانون التجاري.. الخ, حيث يقتصر دوره على حماية الحقوق التي تنظمها القوانين الأخرى. ولذا فإنه يتضمن مجرد نصوص مُعززة لحماية الحقوق أو المصالح المقررة بقواعد قانونية أخرى مدنية أو تجارية أو إدارية أو مالية أو شرعية, مثال ذلك إذا كان القانون المدني يقرر قواعد حق ملكية المنقول؛ فإن قانون العقوبات يتضمن نصوصاً تعاقب على أفعال الاعتداء التي تقع على هذا الحق… سواء بالسرقة أو النصب أو خيانة الأمانة, وكذلك إذا كانت القواعد الدستورية تقرر شكلاً معيناً لنظام الحكم؛ فإن قواعد قانون العقوبات هي التي تحمي هذا النظام وتجرم أفعال الاعتداء عليه. و طبقاً لهذا الرأي فإن قانون العقوبات يطلع بدور ثانوي في النظام القانوني العام للدولة؛ ذلك أنه لا ينشئ حقوقاً أو مصالح غير مقررة في فرع آخر من الفروع القانونية, وإنما هو يحمي ما تقرر هذه الفروع حمايته. ويترتب على ذلك أن الأنظمة القانونية, وكذلك المصطلحات التي يستمدها هذا القانون من فروع القانون الأخرى ينبغي أن تفهم وتفسر في ضوء مصدرها الذي استمدت منه, مثال ذلك فإن مصطلح الملكية والحيازة والعقار والمنقول يجب إعطاؤه المدلول نفسه الذي أعطاه إياه فرع القانون الأصلي المشتق منه.

إن قانون العقوبات وفقاً لهذه الوجهة من النظر, لا يستطيع أن يغير جوهر قواعد تنتمي إلى قانون آخر؛ وإنما يجب أن يقف دوره عند إسداء حمايته لهذه القواعد… إضافة إلى الحماية المقررة لها بموجب فروع القانون الاخرى.

أما الاتجاه الآخر في الفقه وهو ما يعرف بالاتجاه ” المستقل ” , فإنه يذهب إلى القول بأن قانون العقوبات له ذاتيته المستقلة, ولا يقوم على مجرد حماية حقوق تقررها فروع أخرى من القانون, ولكنه يحمي أيضاً حقوقاً مقررة بمقتضى النظام القانوني العام للدولة دون أن ينص عليها فرع معين من فروع القانون؛ كحماية حق الإنسان في الحياة وحقه في سلامة جسده. كما أنه عندما يقرر حماية أنظمة مقررة بموجب قوانين أخرى, فإنه يحدد لها مفهوما أو على الأقل يعطيها لوناً مستقلاً… مثال ذلك فإن قانون العقوبات عندما يقرر حماية حق الملكية كحق مقرر في القانون المدني فإنه يقرر حمايته في إطار وظيفته كقانون للدفاع الاجتماعي, وبالتالي إعطاء هذا الحق قيمة إجتماعية وليس مجرد حق مقرر لمصلحة الفرد المجني عليه وحده.

كما أن مدلول الموظف العام في الجرائم التي يرتكبها الموظفون العمومين ضد الإدارة العامة ليس له نفس الدلالة في القانون الإداري, حيث أن قانون العقوبات يوسع في مدلول الموظف العام وفقاً لمقتضيات الحماية الجنائية؛ ليشمل أشخاصاً لا يمكن اعتبارهم موظفين عموميين وفقا لقواعد القانون الإداري.

وهذا الاتجاه هو ما نرجحه, لأن قانون العقوبات كقانون للدفاع الاجتماعي ينبغي أن تكون له ذاتيته المستقلة عن فروع القانون الأخرى حتى يمكنه أن يحقق أهدافه, وإن كان بطبيعة الحال لا يمكن فصله عن فروع القانون الأخرى فجميع القوانين تنتمي إلى نفس النظام القانوني في الدولة.

المطلب الثاني:-

أولاً- قانون العقوبات القسم العام, وقانون العقوبات القسم الخاص:

في إطار تحديد موضوعات قانون العقوبات نشير إلى أنه يشتمل على نوعين من القواعد؛ قواعد عامة وأخرى خاصة. وتأتي دراسة النوع الأول ضمن القسم العام من قانون العقوبات, وهي تتعلق بالأحكام العامة المشتركة التي تخضع لها جميع الجرائم بدون استثناء, ومنها تلك التي تتناول الأركان العامة المشتركة للجريمة, والشروع فيها, والمساهمة الجنائية, وأسباب الإباحة, والمسؤولية الجنائية, وكذلك التي تتعلق بتطبيق العقوبة وتشديدها وتخفيفها أو الإعفاء منها ووقف تنفيذها.

أما القواعد الخاصة فيضمنها القسم الخاص من قانون العقوبات le droit penal special  , وهي تتعلق بالأحكام الخاصة بكل جريمة على حدة من حيث أركانها و ظروفها المختلفة وكذا الجزاء المقرر لها.

وهكذا تبدو الصلة وثيقة بين القسمين؛ فالقسم العام ماهو سوى مقدمة للقسم الخاص, ولا يتسنى إعمال أحكام القسم الخاص بدون الإلمام بالأحكام العامة الواردة بالقسم العام من قانون العقوبات.

وقد أخذ المشرع الليبي بهذا النهج, حيث أفرد الكتاب الأول من قانون العقوبات للأحكام العامة ( المواد 1 – 164 عقوبات ), بينما خصص الكتب الثلاثة التالية للأحكام الخاصة ( المواد من 165 – 507 ).

ثانياً- صلة قانون العقوبات بقانون الإجراءات الجنائية:

عند وقوع الجريمة ينشأ للدولة حق في معاقبة مرتكبها والقصاص منه, كما أنه بصدور حكم نهائي بالإدانة ينشأ لها الحق في تنفيذ الجزاء على المحكوم عليه.

والدولة تمارس سلطتها في معاقبة الجاني وملاحقته بصدد الجريمة التي اقترفها من خلال إجراءات معينه رسمها القانون يتعين على السلطات التابعة لها احترامها والامتثال لها, وهي ما يطلق عليها ” الإجراءات الجنائية “.

وفي هذا الصدد يمكن القول بأن القانون الجنائي بمعناه الواسع يتضمن نوعين من القواعد القانونية, الأولى وتسمى ” بالقواعد الموضوعية ” , وهي التي تحدد الجرائم و الجزاءات المقررة لها, أما الثانية فيطلق عليها ” القواعد الإجرائية ” أو الشكلية التي يستلزم اتباعها بغية الوصول بالدعوى الجنائية إلى غايتها المرجوة, والمتمثلة في صدور حكم عادل سواء كان ذلك بالإدانة أو بالبراءة. وهي تشمل جميع الإجراءات التي يتم اتخاذها منذ وقت وقوع الجريمة إلى حين صدور حكم نهائي وتنفيذ هذا الحكم؛ إذ تتضمن إجراءات جمع الاستدلالات والتحقيق الابتدائي والمحاكمة وطرق الطعن في الأحكام وتنفيذ الجزاءات المحكوم بها, وكذا تحديد السلطات المختصة بمباشرة تلك الاجراءات واختصاصاتها.

ومن هنا تبرز أهمية وخطورة القواعد الإجرائية وما تلعبه من دور في إعمال حق الدولة في العقاب. وهذا يعني أن كلاً من قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية وثيق الصلة بالآخر ويكمله؛ إذ هما متلازمان حتمياً من حيث إن وجود كل منهما شرط لإعمال الآخر. فقانون الإجراءات الجنائية هو الذي ينقل قانون العقوبات من حالة السكون إلى حالة الحركة… أو بعبارة أوضح فإن تطبيق أحكام هذا الأخير لا يتأتى إلا من خلال قانون الإجراءات الجنائية الذي هو الوسيلة الوحيدة لتطبيق القواعد الموضوعية.

هذا من جهة, ومن جهة أخرى فإن قانون الإجراءات الجنائية لا يتصور وجوده بدون وجود قانون العقوبات.

وبالتالي لا جدوى من قواعد التجريم والعقاب ما لم تؤازرها قواعد الإجراءات الجنائية, فهذه الأخيرة هي التي تكفل تطبيقها على الوجه الأكمل من خلال ما توفره من ضمانات وضوابط لصحة التحقيق والمحاكمة وتنفيذ الأحكام. إذ لا عقوبة بدون حكم قضائي, ولا حكم بدون محاكمة, ولا محاكمة بدون قواعد تبين إجراءاتها وكيفية القيام بها.

فإذا كانت مصلحة المجتمع تقتضي توقيع العقوبة على الجاني وعدم إفلاته من العقاب, فإن مصلحته كذلك ألا توقع عقوبة على غير مرتكب الجريمة؛ أي عدم إدانة البريء.

بعبارة أخرى, إن قواعد الإجراءات الجنائية هي التي تنظم ممارسة الدولة لحقها في العقاب, وهذا يقضي إقامة التوازن بين حق المجتمع في ملاحقة الجناة ومعاقبتهم, وحق الأفراد في ضمان حقوقهم والمحافظة على حرياتهم في مواجهة شطط السلطات المختصة وتعسفها.

ولما كان قانون الإجراءات هو الوسيلة التي بواسطتها يتم وضع أحكام قانون العقوبات موضع التطبيق من الناحية العملية, لذا فهو يعد تابعاً لهذا الأخير, وهو من هذه الناحية أشبه ما يكون بقانون المرافعات المدنية والتجارية من حيث صلته بالقانونين المدني والتجاري, وإن كان قانون المرافعات ليس من المحتم إعماله لتطبيق القانونين السالفي الذكر, إذ لا تكون ثمة حاجة إليه إلا متى تم اللجوء إلى القضاء… إذ بوسع المدين ألا يكون مضطراً لذلك إذا أوفى بإلتزامه تجاه الدائن.

غير أنه رغم ما بين قانوني العقوبات الإجراءات الجنائية من صلات وثيقة على النحو السابق بيانه, فإن ثمة تمايزاً بينهما؛ فهما يختلفان من حيث الغاية والهدف, ففي حين يهدف قانون العقوبات إلى حماية المصالح الأساسية للمجتمع بما يفرضه من جزاءات يتم إنزالها بكل من يضر بهذه المصالح أو يعرضها للخطر, نجد أن قانون الإجراءات الجنائية يرمي في الأساس إلى حسن سير العدالة وضمان عدم إدانة البريء أو إفلات المجرم من العقاب.

وهذا الاختلاف في الأهداف أدى إلى اختلافهما من حيث موضوع كل منهما؛ فبينما ينظم قانون العقوبات شروط ثبوت حق الدولة في العقاب, يأتي قانون الإجراءات الجنائية إلى تنظيم القواعد التي تقود إلى تأكيد هذا الحق وإقراره أو نفيه عن الحكم القضائي.

ومن أوجه الاختلاف بينهما كذلك أن القياس محظور في مسائل التجريم والعقاب وجائز في قانون الإجراءات الجنائية من حيث الأصل إلا إذا كان الأمر متعلقاً بقاعدة استثنائية.

إلى جانب ذلك أن قواعد قانون العقوبات تسري بأثر رجعي إذا كانت الأصلح للمتهم خروجا على الأصل العام الذي يقضي بعدم رجعية القانون, أما قواعد قانون الإجراءات الجنائية فإنها تسري دائما بأثر فوري مباشر.

ثالثاً- صلة قانون العقوبات بعلم الإجرام:

سبق القول بأن قانون العقوبات في مقدمة الوسائل التي تتوسل بها الدولة لمكافحة الجريمة, وإلى جانبه تقف مجموعة من العلوم الأخرى التي تشاطره الغاية ذاتها وإن اختلفت ميادينها ومناهج البحث فيها, وهذه العلوم تؤازر قانون العقوبات, وتقدم له العون والمساندة, لذا أطلق عليها العلوم المساعدة ” Les Sciences Auxiliaires” أو المعاونة, ومن أهمها وفي مقدمتها علم الإجرام: ويضم هذا العلم ثلاثة فروع, وهي علم طبائع المجرم؛ وهو يبحث في العوامل الفردية للجريمة التي تكمن في الشخص نفسه وتدفعه إلى اقتراف الجريمة, وبالذات فيما يتعلق بتكوينه البيولوجي والفسيولوجي, وعلم النفس الجنائي, وهو يهتم ببحث العوامل ذات المنشأ النفسي, ثم علم الاجتماع الجنائي, وهو يُعنى بدراسة شتى العوامل الاجتماعية والسياسية والثقافية وأثرها في تفشي الظاهرة الإجرامية في المجتمع. وهو يختلف عن قانون العقوبات من حيث طبيعته ووظيفته ومناهجه. فعلم الإجرام هو علم واقعي يهتم في الأساس بدراسة الظاهرة الإجرامية كظاهرة فردية واجتماعية, ووصفها كماً وكيفاً, ومحاولة الوقوف على العوامل الدافعة إليها سواء كانت عوامل فردية أم خارجية… فهو يصف الظاهرة ويعمل على إيجاد تفسير علمي لها. أما قانون العقوبات فهو علم قاعدي, يهتم ببحث الجريمة من حيث تنظيمها القانوني؛ فيحدد أنواع الأفعال المحظورة ويقرر الجزاءات التي توقع على مقترف هذه الأفعال, بمعنى أن اهتمامه بالجريمة ينصب على تحديد أركانها وعناصرها, وشروط قيام المسؤولية عنها, وبيان الأحوال التي تباح فيها, وما إلى ذلك مما يتفق مع وظيفة هذا القانون وطبيعته.

 قانون العقوبات وقواعد الأخلاق:

تشترك القواعد الاجتماعية بشكل عام في ضبط السلوك الاجتماعي, ولما كان قانون العقوبات, باعتباره أحد فروع القانون, من العلوم الاجتماعية, فهو يلتقي مع قواعد الأخلاق باعتبارهما من سوائل الضبط الاجتماعي في نطاق أي مجتمع من المجتمعات, وبالتالي فإن ثمة صلة وثيقة تجمع بينهما, وإن كانت هذه الصلة تتفاوت ضيقاً واتساعاً من مجتمع لآخر.

وتبرز الصلة بينهما في أن عديد الأفعال المنافية للأخلاق يجرمها قانون العقوبات, كما هو الحال في السرقة والقتل والإيذاء وهتك العرض والزنا.

وهنا تنبغي الإشارة إلى أن القانون يتدخل بالعقاب كلما كان السلوك المنافي للأخلاق على درجة كبيرة من الخطورة على المجتمع, أو كل ما من شأنه أن يفضي إلى حدوث خلل أو اضطراب في المجتمع بتقويض أمنه أو بنيانه الاجتماعي.

ومع هذا, فإنه رغم الصلة التي تجمع بين قواعد قانون العقوبات وقواعد الأخلاق على النحو الذي سبق بيانه, نجد أن كلاً منهما يستقل عن الآخر من حيث نطاقه. فليس كل ما تستنكره الأخلاق يكون محلاً للتجريم من قبل القانون… من ذلك مثلاً أن الكذب المجرد يكون خارج دائرة التجريم, ولا يعبأ به القانون – رغم كونه منافياً لقواعد الأخلاق – ما لم يكن قد اقترن بمظاهر خارجية تجعله يشكل خطراً على الغير؛ فيكون نصباً متى صاحبته أو اقترنت به طرق احتيالية ( مادة 461 عقوبات ) , ويكون تزويراً إذا ما وقع في محرر ( المواد 341 – 353 عقوبات ), ويكون جريمة اليمين الكاذبة في حالة صدوره عن أحد أطراف الخصومة المدنية أثناء تحليفه اليمين ( مادة 265 عقوبات ) , ويكون شهادة الزور إذا صدر عن شاهد عند الإدلاء بشهادته أمام القضاء ( مادة 266 عقوبات ).

هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى فإن القانون كثيراً ما يجرم بعض مظاهر السلوك التي لا تتعارض مع مبادئ الأخلاق, باعتبار أن تجريمها تتطلبه مصلحة المجتمع… كما هو الشأن في كثير من المخالفات, وإحراز السلاح بدون ترخيص, وعديد من جرائم المرور. ذلك أن قواعد القانون ذات طبيعة نفعية واقعية, لا تتدخل في سلوك الشخص إلا متى كان يشكل خطراً على المجتمع.

وما يميزهما عن بعضهما البعض هو أنهما يختلفان من حيث غاية كل منهما, فقواعد قانون العقوبات تهدف إلى تحقيق الاستقرار والطمأنينة, في حين تتعدى قواعد الأخلاق هذه الغاية إلى ما هو أبعد, وهو نشدان الكمال الخلقي لدى الناس.

ناهيك أن الجزاء مختلف في كليهما من حيث طبيعته من ناحية والجهة التي تضطلع بتوقيعه من جهة أخرى؛ فجزاء الخروج على قواعد القانون ذو طبيعة مادية ملموسة متمثلاً في الإعدام والسجن المؤبد والسجن والحبس والجلد والقطع والغرامة والمصادرة الخ, في حين أن جزاء مخالفة القاعدة الأخلاقية ذو طبيعة معنوية يتمثل في تأنيب الضمير أو استنكار الجماعة التي ينتمي إليها المخالف. والجزاء الجنائي توقعه السلطة العامة جبراً, أما جزاء انتهاك القاعدة الأخلاقية, فهو باطني ( داخلي ) يتجسد في وخز الضمير وتأنيبه أو خارجي وذلك يتجلى في صورة استهجان الجماعة واستنكارها.

المطلبالثالث:

– العيب العقلي:

والعيب العقلي كعارض من عوارض الاهلية, والذي من شأنه أن يؤثر في مسؤولية الجاني, قد يكون كلياً, وقد يكون جزئياً, ولكل منهما حكمه.

أولاً- العيب الكلي ( الجنون وما في حكمه )

ماهيته:لم يعرف المشرع الليبي – شأنه شأن غيره – العيب العقلي على اعتبار أنه يتعذر الوصول إلى تعريف دقيق له, بحيث يستوعب جميع الحالات التي تنطبق عليها؛ نظراً لتعلق هذا العارض بمفاهيم طبية ونفسية, وهذا المسلك من شأنه أن يوقر على القاضي البحث عن نوع المرض العقلي, إذ يكفي التحقق من وجود مرض عقلي أيا كان نوعه طالما أفضى ذلك الإدراك أو التمييز لدى المتهم.

فبالرغم من أن المشرع ذكر في المادة 83 عقوبات ليبي أن العيب العقلي ينتج عن مرض, إلا أنه يبين نوع المرض الذي يؤدي إلى حدوث هذا العارض, وعلى هذا يمكن أن يكون هذا المرض عضوياً يصيب المخ أو الجهاز العصبي, ويمكن أن يكون نفسياً… لاسيما أن الخبراء لم تجتمع كلمتهم على رأي واحد في هذا الشأن. فالمختصون في الأمراض العقلية يرون أن أي اضطراب يصيب القوى العقلية للإنسان لابد أن يكون عضوي المنشأ Organic, أما النفسيون فيذهبون إلى أن بعض حالات الاضطراب العقلي ذات منشأ نفسي بحت.

وبطبيعة الحال يدخل في مفهوم العيب العقلي الجنون, وهو ما يذهب بالقوى المدركة في العقل بما يعجمها كلياً أو يجعلها في حكم العدم إما بصورة مستمرة أو متقطعة ( دائماً أو مؤقتة ), ما يفضي إلى فقد الإنسان وعيه وإدراكه.

والعيب العقلي قد ينشأ منذ الولادة, كما أنه قد يطرأ بعد ذلك ( أي يكون مكتسباً ), ومرد ذلك إما الإدمان على المواد المخدرة أو الكحولية, أو جراء الإصابة بأمراض عضوية, أو نتيجة تعرض الشخص لمواقف عاطفية حادة ليس بمقدوره مقاومتها أو التغلب عليها.

وتجدر الإشارة إلى أن للعيب العقلي عدة صور أو حالات, ولعل من أكثرها شيوعاً:

ثانياً- الضعف العقلي: ويراد به توقف نمو الملكات الذهنية قبل بلوغ المستوى الطبيعي للنضج, وهو درجات متفاوتة, من أشدها ما يعرف ” بالعته ” ثم يليه في المرتبة ” البله ” , وأخيراً ” الحمق “.

وهذه الصور يمكن تصنيفها من خلال اختبارات الذكاء, وعلى ضوء ذلك يعد الشخص معتوهاً من يتحصل على درجة لا تتعدى (25) , في حين يعد من البلهاء من يتحصل على درجة تترواح ما بين 25 – 50 , أما من يحصل على درجة من 50 – 75 فيعد أحمقاً. مع الأخذ في الاعتبار أن مستوى الذكاء العادي يتراوح ما بين 90 و 110 درجات.

كما يعد من حالات العيب العقلي ” الصرع ” , والذي يتخذ عادة شكل نوبات يفقد خلالها الإنسان شعوره وإرادته… فلا يستطيع السيطرة على أعضاء جسمه. ومن قبيل ذلك أيضاً ” الهستيريا “, والتي تعمل على شل إرادة الشخص ما يجعلها تندفع على نحو لا قبل له بمقاومته, و ” اليقظة النومية ” , وتتجلى في حالة الشخص الذي يقوم حال نومه ببعض الأفعال أو يتفوه ببعض الأقوال التي لا يعيها عند يقظته. ويشمل العيب العقلي كذلك ما يسمى ” بالفصام ” , أو الشيزوفرينيا, وهو نمط من الهستيريا, حيث يعاني المصاب من ازدواج في شخصيته؛ بحيث لا يعي ما صدر عنه من أقوال أو أفعال وهو في إحدى الشخصيتين حينما يكون في الشخصية الأخرى.

ويندرج تحت هذا المعنى أيضاً ” جنون العقائد الوهمية ” , أو البارانويا… حيث تتسلط على المصاب بعض الأفكار والهواجس لا يمكنه مقاومتها أو التحرر من سيطرتها عليه؛ ما يجعله يقدم أحياناً على ارتكاب الجريمة تحت تأثير مثل هذه الأفكار التسلطية.

ومن ضروب العيب العقلي ما يسمى ” بجنون السرقة” , أو الكلبتومانيا… حيث يندفع المصاب بهذا المرض إلى ارتكاب جرائم السرقة بالرغم من إدراكه لحقيقة ماهو مقدم عليه ودون أن يكون في حاجة إلى المال, وكذلك ” جنون الحريق ” وهلم جرا.

كما يعد في حكم العيب العقلي حالة التنويم المغناطيسي, والمتمثل في حالة افتعال نوم غير طبيعي , يصبح فيها الشخص المنوم مغناطيسياً أكثر قابلية للإيحاء, بحيث يضيق مجال الاتصال بين المنوم والعالم الخارجي, ويصبح مرتبطاً بالمنوم إيحائياً. ومع ذلك تنبغي الإشارة إلى أنه ليس كل شخص قابلاً للتنويم؛ فضلا عن  ذلك أن ثمة من يمكن تنويمه بدرجة يسيرة, وهناك من يمكن تنويمه بدرجة عميقة, وكلما أمكن تعميق درجة النوم كلما زاد احتمال قبول النائم للإيحاء.

والنوم ليس من شأنه أن يفقد الشخص قوة الشعور والإرادة , أما النوم العميق فهو يفقد النائم ذلك؛ الأمر الذي ينفي المسؤولية الجنائية.

– فقد الشخص قوة الشعور والإرادة وقت ارتكاب الفعل:

لا يكون للعيب العقلي الكلي من أثر في نفي مسؤولية الفاعل الجنائية, إلا إذا ترتب عليه فقده قوة الشعور والإرادة وقت ارتكابه الفعل. أما إذا ترتب عليه فقده قوة الشعور والإرادة قبل ارتكاب الفعل أو بعده, فإنه ليس من شأنه نفي مسؤوليته الجنائية. وتطبيقاً لذلك قضت المحكمة العليا بأن ” وقت اقتراف الفعل هو الذي يجب فيه معرفة حالة المتهم من حيث توافر قوة الشعور والإرادة لديه من عدمه حتى يمكنه مسائلته أو عدم مسائلته عما اقترفه من أفعال على التفصيل المبين بالمواد

( 79, 83, 84 ع ). وهو أمر جوهري يستوجب البث فيه من قبل عرضه على اللجنة الطبية فقط كما جاء بالحكم المطعون فيه, ولم يتعرض هذا الحكم لبيان حالة المتهم وقت ارتكاب الجريمة, مما تكون معه المحكمة المطعون في حكمها قد أخلت بحق الطاعن في الدفاع, وشاب حكمها في قصور التسبيب مما يكون معه الحكم معيباً مما يبطله. ولذا فإن من المهم تحديد وقت ارتكاب الفاعل الفعل حتى يمكن تحديد ما إذا كان يمكن إقامة الدعوى الجنائية ضده أو عدم إقامتها. وقضت نفس المحكمة بأنه ” وحيث إن مؤدى ما جاء بالتقرير المشار إليه أن النوبات المرضية التي تلم بالمطعون ضده وتجعله غير مسؤول جنائياً, ليس لها طابع الدوام والاستمرار, وهو ما يفهم منه أن للمطعون ضده أحوالاً يكون فيها مكتمل الإرادة ومدركاً لأفعاله وأقواله مما يجعله أهلا للمسائلة عما يبدو منه في تلك الأحوال من أي فعل أو قول ينص القانون على تجريمه ويوجب مسائلة مرتكبه, وكان يبين من الحكم المطعون فيه أن المحكمة مصدرته قضت بعدم مسائلة المطعون ضده جنائيا اعتماداً على التقرير المشار إليه ال1ي لم يقطع بأن النوبات المرضية التي يعاني منها هي نوبات مستمرة لها طابع العيب العقلي, الذي يعدم مسؤوليته أو ينقصها ودون أن تتأكد مما إذا كانت الأفعال المسندة إليه قد ارتكبها في حالة عدم صحوته من النوبات التي تلم به… فإن حكمها يكون فاسداً في استدلاله وقاصراً في أسبابه ومن ثم وجب القضاء بنقضه.

وتحديد وقت ارتكاب الفعل المجرم الذي ينبغي أن يفقد فيه الإنسان قوة الشعور والإرادة حتى تمتنع مسؤوليته الجنائية, يختلف باختلاف نوع الجريمة… ولذا فإنه بالنسبة للجرائم الوقتية ينبغي النظر إلى حالة الفاعل وقت إتيان الفعل. وفي جرائم الاعتياد ينبغي النظر إلى حالته وقت ارتكاب كل فعل يدخل في تكوينها, وفي الجرائم المستمرة ينبغي النظر إلى حالته مدة الاستقرار, وفي الجرائم المتتابعة الأفعال ينبغي النظر إلى حالته وقت ارتكاب كل فعل منها. والعيب العقلي الكلي يمنع من مسائلة الفاعل جنائياً عن جميع الجرائم دون استثناء.

– إثبات العيب العقلي:

إن تقدير مدى توافر العيب العقلي من عدمه يستقل به قاضي الموضوع دون رقابة عليه من محكمة النقض. وتأكيداً لذلك تقول المحكمة العليا بأنه: ” وحيث إن تقدير ما إذا كان المتهم مصاباً بعاهة في العقل أفقدته الشعور أو الاختيار وقت ارتكاب الحادث أمر يتعلق بوقائع الدعوى ويفصل فيه قاضي الموضوع دون رقابة من محكمة النقض, وقاضي الموضوع من حقه إذا دق عليه الأمر أن يستعين بأهل الخبرة من الأطباء , فإذا قدم المتهم شهادة طبية ورأت المحكمة أن حالة المتهم تدل على انه كان سليم العقل وقت ارتكاب الجريمة فلا رقابة لمحكمة النقض عليها, لأن هذا تقرير للوقائع المعروضة عليها, ولا يصح إلزامها برأي خبير, وقد تكون الحالة من الوضوح بحيث لا يتطلب الأمر الاستعانة بأهل الخبرة, ولمحكمة الموضوع المرجع الأخير في تقدير الأمر.

وبالتالي فالمحكمة ليست ملزمة بندب خبير لفحص حالة المتهم إذا طلب ذلك, ولكن يجب عليها إذا ما رفضت طلبه هذا أن ترد على ذلك بأسباب سائغة وكافية وإلا كان حكمها قاصر التسبيب مخلاً بحق الدفاع.

وإذا كانت محكمة الموضوع قد انتدبت خبيراً لهذا الغرض لا تكون ملزمة برأيه, فلها أن تعول عليه ولها أن تحكم خلافاً لما ورد بتقديره؛ فهي الخبير الأعلى… ذلك أن رأي الخبير استشاري ليس إلا, والمحكمة ليست ملزمة بالأخذ به, ومع ذلك فإن المسائل الفنية البحتة لا يجوز للمحكمة البت فيها بنفسها دون الاستعانة بخبير متخصص وتطبيقاً لذلك قضي:

” فإذا كانت محكمة الموضوع قد طرحت رأي مدير مستشفى الأمراض العقلية عن الحالة العقلية للشخص واستندت في القول بسلامة عقله إلى أقوال الشهود فإنها قد أخلت بحق الدفاع وأسست حكمها على أسباب لا تحتمله”

كذلك لا يجوز للمحكمة ان ترفض خبرة فنية إلا على أساس خبرة فنية أخرى حتى يتسنى لها ترجيح إحدى هاتين الخبرتين. وعلى هذا الأساس قررت المحكمة العليا بأنه:

” ليس لمحكمة الاستئناف أن تخوض في صميم المسائل الفنية التي أبدى فيها الخبير رأيه الفني لأن استعانة القاضي بأهل الخبرة في المسائل الفنية التي يتعذر عليه إدراكها يتطلب منه أن يضع في الاعتبار رأي الخبير فيما يتعلق بالمسائل الفنية وألا يطرح رأيهم إلا لأسباب مقبولة “.

وإذا انتدبت المحكمة خبيراً بحتة – كتلك المتعلقة بالعيب العقلي – لا يجوز لها أن تفصل في الدعوى دون الرجوع إلى رأي الخبير في هذا الشأن, غير أن ذلك لا يمكن أن يخل بسلطتها في تقدير رأيه وفقاً لاقتناعه الشخصي.

ومع هذا, فإن محكمة الموضوع ليست ملزمة بندب خبير إذا كان في مكنتها ان تستمد قناعتها من أي مصدر آخر, أو كان في استطاعتها أن تبت في المسائل الفنية لوحدها دونما حاجة لندب خبير.

وعلى فرض أن المتهم قد دفع بانه مصاب بالجنون, فلا يجوز للمحكمة ان تستند في إثبات عدم جنونه إلى أنه لم يقدم دليلاً؛ بل عليها أن تثبت انه لم يكن كذلك وقت ارتكاب الفعل, ولا تطلب منه إقامة الدليل على ما يدعيه.

– العيب العقلي الطارئ بعد الجريمة:

أما إذا طرأ العيب العقلي الكلي على الإنسان بعد وقوع الجريمة, فإنه ليس له من أثر على مسؤوليته الجنائية, وإنما يقتصر أثره على وقف الإجراءات الجنائية إذا طرأ العيب بعد وقوع الجريمة وقبل صدور الحكم النهائي بالعقوبة.

وفيما يخص وقف الإجراءات… تنص المادة ( 312 إ.ج.ج.ل ) على أنه ” إذا ثبت أن المتهم غير قادر على الدفاع عن نفسه بسبب عاهة في عقله طرأت بعد وقوع الجريمة يوقف رفع الدعوى عليه أو محاكمته حتى يعود إليه رشده, ويجوز في هذه الحالة لقاضي التحقيق أو للقاضي الجزئي بطلب النيابة العامة أو غرفة الإتهام أو المحكمة المنظورة أمامها الدعوى, فإذا كانت الواقعة جناية أو جنحة عقوبتها الحبس إصدار الأمر بحجز المتهم في أحد المحال المعدة للأمراض العقلية إلى أن يتقرر إخلاء سبيله. وحكمه وقف الإجراءات في هذه الحالة هي عدم مقدرة المتهم الدفاع عن نفسه ولذا فإن الإجراءات تستأنف بعد علاجه وشفائه من المرض العقلي. وقد قضت المحكمة العليا بأنه ” إذا أصيب المتهم أثناء نظر الدعوى بمرض عقلي يجعله غير مسؤول جنائياً, وبالتالي غير قادر على الدفاع عن نفسه فإنه يتعين وقف السير في الدعوى حتى يعود إليه رشده تطبيقاً للمادة 312 إجراءات جنائية “. غير أنه يلاحظ أن وقف الإجراءات لا يمتد إلى إجراءات التحقيق التي يرى أنها مستعجلة أو لازمة ( م312 ق.إج.ج.ل ) كالقيام بمعاينة مكان ارتكاب الجريمة أو سماع شهادة الشهود, وفي الحالة المنصوص عليها في المادتين ( 311 ق.إ.ج.ج.ل ) الحبس تحت الملاحظة و ( م 312 ق.إ.ج.ج.ل ) العاهة الطارئة بعد الجريمة. تخصم المدة التي يقضيها المتهم تحت الملاحظة أو في الحجز من مدة العقوبة المحكوم بها عليه ( م314 ق.أج.ج.ل ) وإذا أصيب المحكوم عليه بعقوبة مقيدة للحرية بجنون فإنه ينبغي تأجيل المحال المعدة للأمراض العقلية, على أن تستنزل المدة التي يقضيها في هذا المحل من مدة العقوبة المحكوم بها ( م446.إ.ج.ج.ل ). ويرجع وقف التنفيذ في هذه الحالة إلى أن تنفيذ عقوبة مقيدة للحرية على شخص فقد قوة الشعور والإرادة, هو أمر يتنافى وأغراض العقوبات المقيدة للحرية التي هي إصلاح حال المحكوم عليه وتأهيله لأن يكون عضواً صالحاً في المجتمع, فهذا الهدف لا يمكن تحقيقه في مواجهة شخص لا يدرك ماهية أفعاله.

ويلاحظ أن وقف التنفيذ في هذه الحالة يقتصر على العقوبات المقيدة للحرية, ولكنه لا يمتد إلى عقوبة الإعدام التي ينبغي تنفيذها, ولو فقد المحكوم عليه قوة الشعور والإرادة بعد الحكم عليه نهائياً ذلك أن هذه العقوبة يقتصر أثرها على مال المحكوم عليه وفي مواجهة القيم عليه.

غير أنه لا يجوز تنفيذ عقوبة الغرامة عن طريق الإكراه البدني ( م66.ق.ج.ج.ل ) ذلك أن الإكراه البدني يتم بالحبس البسيط, وهو عقوبة مقيدة للحرية والعقوبات المقيدة للحرية لا جوز تنفيذها في مواجهة من أصيب بجنون طارئ بعد الحكم النهائي على النحو السابق ذكره ( م46.إ.ج.ج.ل ) يضاف إلى ذلك أن الإكراه البدني هو مجرد وسيلة لدفع المحكوم عليه على تأدية الغرامة. ولذا فإنه يعتبر مجد بالنسبة لمن أصيب بعيب عقلي كلي يجعله فاقد الشعور والإرادة, لأنه لا يدرك شيئا من هذا القبيل.

ثالثاً- العيب العقلي الجزئي:

فالعيب العقلي الجزئي – خلافاً للعيب العقلي الكلي – هو الذي لا يكون مطبقاً, ومن ثم فهو لا يعدم المسؤولية كلياً, وكنه باعتباره ينقص قوة الشعور والإرادة لدى الإنسان دون أن يزيلها يقتصر أثره على تخفيف المسؤولية. إذ لا يمكن المساواة بين من هو مصاب بعيب عقلي جزئي بالمجرم الشاذ abnormal أو شبه المجنون أو نصف المجنون.

ولا يختلف العيب العقلي الكلي عن العيب العقلي الجزئي من حيث أصل كل منهما, فهو واحد في الاثنين, وكل ما هنالك من فارق بينهما هو درجة التأثير على قوة الشعور والإرادة, فإذا كان من شأن العيب العقلي افتقاد المصاب به قوة الشعور والإرادة فهو كلي أما إذا كان يفضي فقط إلى إنقاصها دون أن يزيلها فهو جزئي.

وهو ما ذهبت إليه كثير من التشريعات الحديثة إذ اعتبرت العيب العقلي الجزئي عذراً قانونياً يلزم القاضي بتخفيف العقوبة المقررة للجريمة, ومن ذلك ما قرره المشرع الليبي في المادة 84 عقوبات إذ ينص على أنه:

” يسأل من كان وقت اقتراف الفعل في حالة خلل عقلي غير مطبق ناتج عن مرض أنقص قوة شعوره وإرادته بقدر جسيم دون أن يزيلها. إلا أنه تستبدل في شأنه بعقوبة الإعدام السجن لمدة لا تقل عن عشر سنوات, وبعقوبة السجن المؤبد لمدة لا تقل عن خمس سنوات. وتخفض العقوبات الأخرى بمقدار ثلثيها “.

ويستفاد من هذا النص أنه لا تأثير للعيب العقلي الجزئي على المسؤولية إلا إذا كان من شأنه إنقاص قوة الشعور والإرادة بقدر جسيم, ويعود لقاضي الموضوع تقدير ما إذا كان النقص جسيماً أم غير ذلك مستعيناً في ذلك بآراء الخبراء والمختصين إذا رأى أنه في حاجة إلى الاستئناس برأيهم.

وإذا كان المتهم قد دفع بإصابته بالعيب المذكور فإنه يتعين على محكمة الموضوع إذا لم تأخذ بدفعه أن ترد عليه ردًا سائغاً بأسباب كافية, أما إذا لم تفعل فإن ذلك منها يعد إخلالاً بحق الدفاع.

وإذا ثبت لدى المحكمة إنقاص قوة الشعور والإرادة جراء الإصابة بالعيب العقلي فإنه يتوجب عليها والأمر كذلك تخفيض العقوبة باعتبار أن توافر هذا العيب يعد عذراً قانونياً.

ويتم تخفيض العقوبة على النحو التالي:

تستبدل بعقوبة الإعدام السجن لمدة لا تقل عن عشر سنوات.

وتستبدل بعقوبة السجن المؤبد السجن لمجة لا تقل عن خمس سنوات.

أما العقوبات الأخرى فتخفض بمقدار ثلثيها.

وطبقاً للمادة 85 عقوبات يقضي المحكوم عليهم المصابون بعيب جزئي ومن في حكمهم عقوبتهم في محل خاص يوضعون فيه بحيث يكونون خاضعين لرعاية خاصة للعلاج الملائم, ودون تحديد للعقوبة إلا في حدها الأدنى.

ويظل المحكوم عليه بالمكان المذكور حتى يشفى من علته وتسمح حالته العقلية والنفسية بعودته إلى حظيرة المجتمع, وفي هذه الحالة يأمر قاضي الإشراف بالإفراج عنهم بناءً على رأي مدير المصحة والطبيب النفسي, مع إخضاعهم في الوقت ذاته للمراقبة إذا اقتضى الأمر ذلك.

وبالرغم من أن المشرع قد أطلق على الإجراء الذي يتخذ حيال المحكوم عليهم من الفئة السابقة لفظ العقوبة, إلا أن المستفاد من المادتين 84 , 85 سالفتي الذكر هو أن الإجراء تدبير احترازي وإن سمي بالعقوبة باعتباره غير محدد المدة, على اعتبار أن المشرع قد ألزم القاضي بأن يحكم بالحد الأدنى فقط وترك لقاضي الإشراف تحديد وقت الإفراج.

فضلا عن ذلك أن هذا الإجراء أو التدبير لا يتم تنفيذه داخل السجون العادية – كما هو الحال في العقوبة – بل ينفذ في مصحات نفسية تعمل على علاج المحكوم عليهم.

قائمة بالمراجع:

  1. شرح الأحكام العامة لقانون العقوبات الليبي, تأليف الدكتور محمد سامي النبراوي. منشورات جامعة قاريونس-بنغازي.
  2. الدكتور علي راشد, القانون الجنائي المخل وأصول النظرية العامة, الطبعة الأولى سنة 1970.
  3. Delogu t, la loipenale& son application, 1956.
  4. الدكتور السعيد مصطفى السعيد, الأحكام العامة في قانون العقوبات, الطبعة الرابعة سنة 1962.
  5. Bouzat p, pinatel j, traite de droitpenalo& de crimonologie, t.paris1963
  6. الدكتور محمود نجيب حسني, شرح قانون العقوبات الجنائي (( القسم العام )), بيروت سنة 1968
  7. أ. د. موسى مسعود ارحومة, الأحكام العامة لقانون العقوبات الليبي, الجزء الأول: النظرية العامة للجريمة, الطبعة الثانية 2019/2020 منشورات دار الفضيل بنغازي-ليبيا.
  8. الدكتور محمد رمضان باره, شرح قانون العقوبات الليبي القسم العام, الجزء الأول: الأحكام العامة للجريمة.
  9. د. عوض محمد, مبادئ علم الإجرام, المكتبة الوطنية – بنغازي 1973.
  10. Grispini dir.pen.it l Milano 1952.
  11. رمسيس بهنام, نظرية التجريم في القانون الجنائي 1971.
  12. G.maggiore, dri. Pen, vol ,ii p72
  13. مأمون محمد سلامة, قانون العقوبات القسم العام, دار الفكر العربي- القاهرة, 1979.
  14. محمود محمود مصطفى, شرح قانون العقوبات القسم العام, مطبعة جامعة القاهرة1983.
  15. السعيد مصطفى سعيد, الأحكام العامة في قانون العقوبات, دار المعارف بمصر 1962.
  16. د. رؤوف عبيد, مبادئ القسم العام من التشريع العقابي, دار الفكر العربي 1979.
  17. د. أحمد فتحي سرور, الوسيط في قانون العقوبات, الجزء الأول, القسم العام, دار النهضة العربية – القاهرة 1981.
  18. د. أحمد عبدالعزيز الألفي, شرح قانون العقوبات الليبي, القسم العام, المكتب المصري الحديث للطباعة والنشر- الإسكندرية.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :