العُرس

العُرس

بقلم :: محمد عبد الوارث 

(1)
لما رفرفت طيور بيض صاعدة فى السماء … كانت الرؤى ملء الأفق مغبرة سوداء ….
كان الغروب يسلب الضوء من مسارب القربة ….. والهواء ضائعاً بعطر الحشائش المحترقة لم يعد يسمع فى السماء صوت الطيور … وتحت غلاف الأفق يتقاطع من بعيد صدى دوى المدافع وطلقات الرصاص.
ثمان وأربعون ساعة مضت … وميعاد العُرس كالكابوس يجثم على أفكارها، يدق أعصابها بعنف، العينان السوداوان بقعتان نجلاوان فى صفحة الوجه البيضاء، العمر يتقافز فوق الستة عشر، سعير محمر سرى فى الوجنتين، الأظافر تعرت من طلائها واختفى القد داخل الأردية الواسعة، والساقان البضتان اللتان تخلبان لب الشوارع البعيدة المزدحمة توارت خلف الستار السميك لثوب (السَلط).
فى غير تنظيم تكوّر الشعر السرمدى تحت (الشَطْوة) وألتف عقد (الزِنَاق) الفضى حول رأسها . وعلى الصدر تعلق العقد ذو الليرات الأربع والعشرين الذهبية القديمة ميراثها الوحيد من الأم ….
كابوس أقتحم الحياة يمتطى آليات كريهة اللون. موسومة بالمثلث المعقوف. تطأ جنازيرها حلم الزهور البرية. وتغرس بوجه الأرض علامة الموت.
تفور داخلها الدماء. أدناها، أعلاها فورة لذيذة الشعور. متوافقة وثبات القلب، واستعمار الدوى فى البطاح. الصدح والأجنحة، الأوراق المخضوضرة بين الرماد، كأنها انتظمت فى عقد الكون، هو فيها وهى فيه …
أخذت تجلب علب الحلوى ذات الشرائط الملونة تضعها فى حرص بحقيبة السيارة البيضاء المزدانة بالشرائط وبعض الزهور البرية …
الدار محمية تحت ظل صفصافة تشابكت أغصانها فى وحشية. والباب الخشبى العتيق بواجهته دقاقة على شكل هلال، كلما دلفت للداخل أو خرجت من الدار. صارت الدقاقة تضرب فى الباب بصوت ذى وقع قديم فى أذنيها.
يئز الباب أزيزاً له عبق القدم، وهى ترفل فى عباءتها يصير صوت قماشها فى تحركها الهادئ له رنين دقات دفوف صغيرة متزاحمة.
امتلأت الحقيبة بالعلب ذات الشرائط، أغلقت الغطاء بهدوء. وقبل أن تدخل السيارة استدارت تمسح المكان بعينيها. وريقات خضراء …. شمس تبدو فى الأفق متأهبة للشروق … نسمات قلائل حركات أغصان الصفصافة حتى بدت كمن يصفق فى الهواء … الأرض الترابية محمرة بوهج الغروب. وشعار قديم للنصر تجرأ فى مواجهة العيون بلون كالح وأحرف متأكلة يلوح لها من غير بعيد من بعض الرفاق. عجوز تمر بها متهادية تغطى رأسها بـ (العريقية) هنأتها وتمنت لها طول الحياة، ثم توارت خلف الخطوط المتوازية للبيوت المتساندة، تراءت لها ملامح الأم البعيدة فى حدائق الخليل. ولجت السيارة ، دار المحرك، غادرت الحى وبيوته المنداة المسودة الأسطح. شرائط المغارب تلف صفحات الديار والنوافذ والحوائط المثقوبة والأسطح المختفية أسوارها بفعل الشظايا ورياح القهر.
تواصل السيارة المسير عبر الدروب المهدمة، وئيدة الحركة، عروس تزف بين الأزهار البرية والإطلال … ومساحات عشب محترقة. هابطة المرتفع الجبلى، تاركة الأفق خلفها ذكرى ديار قديمة وأبواب عتيقة … عتيقة وحوائط صادقت الشظايا وهناك فى البعيد القريب، حيث صار الأذان مخنوقاً، نقطة بيضاء مستطيلة تتحرك فوق طريق أحمر ثعبانى وبين بيوت متشحة برداء الحزن، وغيم السماء سادر بين فرجات الأفق … انقلب دولاب الذكرى فأنفتحت الأدراج …
(2)
الشعار الشمعداني المذهب ذو الأذرع الثلاث المزدوجة يتصدر القاعة، الجالس فوق المنصة، من بين شفتيه بارزة أنيابه ينصت بإهتمام ذئبى، لضابط سمين، مشمر الأكمام ، ذهبى الشعر، متورم الوجنتين، محمرهما ، يتحدث فى ثقة غلفت بصلف وعلى الرأس ترقد طاقية سوداء صغيرة مهما تمايل لا تقع.
.. قال – سادتى … نحن أبطال مطلقو القوة معصومون …. لا يخامركم شك فى هذا. تهتز الرؤوس متمايلة، مؤكدة ما يقول. ويفتر ثغر رجل المنصة عن أنيابه اللامعة.
– ونحن لا ننسى حلم رواد جيلنا الأول..
الطريق الأسفلتى المتعرج صاعداً هابطاً تعرت جوانبه من الأشجار التى كانت تظلله من بزوغ الشمس حتى المغيب تصادفها فى الطريق فجوات القنابل … تتفاداها تواصل السير والدرب لا زال فى بدايته ….
– ولن ننسى سادتى حلم جيلنا الثانى القادم عبر البحار والذى استبدل به أصابع الديناميت ليصير جواز سفر وبيتاً وقطعة أرض..
فى سيرها تقترب من عينيها أطلال قرية صارت خربة الديار، مهدمة تتوازى معها فتشاهد أكياس رمال متناثرة بقايا سيارة محترقة، نوافذ محطمة، أبواب منزوعة، وفى الجدران فتحات كأنها نوافذ جديدة صنعها الشيطان …
لقد أجّبَرنَا بعملية (الجليل) هذا الرجل وصبيته على الرحيل. لكن هناك شراذم ما تفتأ أن تقلق أمننا … ثم كرر .. تقلق أمننا .. كمرحلة صاروخية تنفصل فى المدار هبطت الذاكرة فى الرؤى البعيدة، الغابة الصنوبرية وذكرى الطفولة وابن العم ذلك المترنم بشعر الأخطل لما صار شاباً واعياً مدركاً الواقع حوله ، خطت يده كلمة حق وصدر الفتى مفعم بالحياة. غمس الأثمون يده اليمنى حتى الكتف فى ماء النار.
تتذكر جسده المسجى بين حشائش الجبل، ويده تراءت لها قد دبت فيها الحياة ورفعت أصبعين علامة النصر ….
يبتسم بارز الأنياب يهتز الرأس والطاقية التى لا تقع متأملاً الضابط الشاخص إليه متلهفاً الأمر ….. والحضور صامتون والعيون راحت تتأمل الموقف . قال رجل المنصة للشاخص إليه متلهفاً..
– أنت أقرب رجالنا لموقع هذه القرية.
– نعم سيدى.
– فى الغد ، عند قدوم الليل سيصرخ صبى يناديك لتنقذه …. لا تجب …
– نعم ….
– ستصرخ إمرأة ….
– لا أجيب ………..
– لا أجيـــــب …….
– فقط رد علينا أن ناديناك …. ألا ترى شيئاً ….
– وهل يقوم بهذا الليل رجالى ؟
– لقد وكلنا له كلاباً جائعة …..
– لكن يا سيدى لو حاول أحد الخروج ……
– وهل تسمح له يافتانا …. أذهب رعاك الرب ….
صفقت القاعة. وأهتز الرأس ذو القبعة الصغيرة السوداء. فى تمايل امتزج مع رنين الأكف فى دوائر لفت الجدران ذات الشعار الشمعدانى المذهب.
والضابط المنتفخ فى تيه راح يصافح عُضْوةَ فى المجلس حمراء الشعر مهوشة …. ورنين التصفيق يصك الأسماع ……
فى الساعة الظلوم، خلف ستر الحجب، زحفت أشباح تسربلت بالسواد.
القلوب صخرية، النصل حاد، العيون تتقد جمراً محشورة ملتصقة داخل وفوق آليات بلون كريه. قلوب يحركها الثأرالقديم.. يدفعها، يُصَلّبْ أياديها فوق الزناد. يثبت الــرؤى فـى العيون، مسجون فى العقل الثأر .. فلا يخرج.
لا يهرب .. إنما يحرث فى العقل .. يتحرك .. يندفع .. يفعل .. ثأر .. ثأر ..
.. يا الله أنقذنا .. ذبح .. ذبح .. ذبخ ..
.. يارسول الله تشفع .. ذبح .. ذبح .. ذبح ..
.. يامريم العذراء تجلى .. ذبح .. ذبح .. ذبح ..
.. ياحسين .. ياحسين .. ذبح .. ذبح .. ذبح ..
الصفير النحاســــى يثقـب الأجساد. فتنفجــر الحياة.
يسترخصون الرصاص فى القتل وهو رخيص يجزون بمنجـــل أو حافة فأس رأساً أو ثدياً. يبقرون البطون .. يخرجـــون أســرارها المستولدة ويذبحون .. ويذبحون ..
يمر زمن الموطن الرخيص. والصراخ يشق العنان .. لا يقهره إلا صوات الصفير
ولا مغيث. فكلما علا الصراخ. عــلا الصفير. حتى صار الصريخ صمتاً والصفير حياة ..
– ولدنا الحبيب، حماك الرب، هل تسمع أو ترى شيئاً ..
– .. .. .. .. .. .. .. .. ..
فى مأوى برميلى جُعِلَ للقمامة. انـشقت عنــه الأرض ولجت رحم الصندوق والخوف فى لحظات الموطن المهيض، صار للفأر حصن يأويه، إلاهُم لا يحميهم من الصفير إلا الصفير، ولا مأوى ..
– ولدنا المختار، أخاطبك أحد ..؟ أقابلك أحد؟
– لا احد .. كل من حاول أعدناه ..
خرجت من صندوقى القدرى، عندمــا انقشع الظلام. وخمد الصفير، رائحة الدم والبارود والتراب صبغـــت الــهواء ..
جرافات آثمة تعيد إلى الأرض ترابها الحى بلا تقديـــس أو نظام. عويل ينطلق فجاة .. ينخرس فجأة .. نداء مرتعش أرتعابــــاً عــن مفقود فى الظلام. يتساند شبحان، يترنحان، ما لبثــا أن تهاويا .. بخطى متعثرة. أبحث عن البيت، أجده مختلفا .. أدفـــع الباب، تغوص قدمى فى شئ لزج فى الظلمة. أصعد الدرج فى ارتعـــاش أدلف إلى المأوى المفتقد. أتوسط الحجرات .. وبعثرة الأغــراض.
على ضوء ثقاب ألمح الممدد تحت الأسرة بين ضلفتى دولاب أو خلف كومة ثياب بين أقداح شراب .. وى .. وليد صارت رأس فأس الحرث فى صدره وبين قبضته الصغيرة، كسرة خبز مبللــة بالدم ..
(3)
ضغطت زر مذياع السيارة فأنساب على الفـــور صوت رخيم لفتاة تروى فى لهجة عربية بفخر وامتلاء. كيف كان يـــوم زفافها .. نوع فستانها .. ونجوم عرسها .. وقيمة سوارها .. وذلك الصباح الذى آذن فيه ختام حفلها .. تتراءى لها من بعيـــد النقطـــة التى تفصل الطرق مابين قريتها وقرية العُرس .. تتناثر الآليـــات ذات اللون الموحل والرجال ذوو الأردية الرمادية المشمرة، وذلك السمين الذهبى الشعر يتوسط ثلة من الجند ضاماً قبضته حــول خاصرته .. والآليات قد سدت الطريق إلا من مساحة لإمرار سيارة واحدة فقط من كل اتجاه .. القدم استحكمت بدال الوقود ..واليدان ثابتتان على المقوّد .. والعقل دارت فيه دوائر .. تعمل .. تحرث .. لا تهُرب .. تحرث العقل .. تندفع .. تفعل وتفعـــل .. وتفعل ..
والعينان ثبتتا على النقطة. تهادت .. ترى جندياً يلوّح، تقترب ..
( أيها القابع خلف جدران الحلم .. بكل السنين العديدة التى دفعتك لكــى تتشبث بالأرض بهذه السنين ذاتها .. بهذا الحق ذاتـــه .. يا مــن جعلتم الرب خاصاً بكم .. لأنكم معصومون .. لستم معصومين .. ) دائرة ذهبية، كرة حمراء كبيرة، خيوط زرقــاء برقيـــة، صهيل شظايا .. أديم مستمر، الأرض حمم ودوى صاعق تـــردده الجبال ..
زغرودة .. تراتيل .. وتكرار دوى .. فى داخـــل دائرة الحطام المشتعل وبين بقايا شرائط ملونة وبعض زهـــرات بريــــة، تناثرت فوق الأرض ليرات الخليفة العثمانى الذهبية ملقاة جميعــــها على وجه واحد، مصطبغة بلون أرجوانى، تلتمع فى بريق يتوالى ..

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :