بقلم :: د :: عابد الفيتوري
لا يمكن إنهاء الحروب الأهلية باعتماد المحاكم والمحاكمات .. يميل المجتمع الدولي لإعطاء الأولوية للإصلاح السياسي، بدلا عن التركيز على تجريم مرتكبي العنف . وتمة اعتقاد بعدم كفاية المحاكمات باعتبارها ذات دوافع سياسية اكثرا ما تكون احكامها بمثابة رد فعل على العنف الجماعي المرتكب .والذي هو مسألة سياسية أكثر من مجرد كونه مسألة جنائية .
من الأفضل في بعض الأحيان إرجاء او وقف المسؤولية الجنائية حتى تتم معالجة المشكلة السياسية الأساسية.. كما ان غياب الواقعية السياسية لتقبل افكار المصالحة ، ندير بتوالي الإخفاقات السياسية التي تهدد مستقبل البلد .
ما حدث في ليبيا ليس استثناء من القاعدة ، انتفاضة شعبية انتجت ثورة عنيفة ضد النظام في بلد يعد من بين الأماكن الأقل نموا على وجه الأرض، وبعد عقود من الصراع والإهمال ووهن الدولة والنظام او بالاحرى اللانظام . لكن الصراع منذ البداية افرز وجه الاقتتال القبلي ، وشكلت كتائب الثوار باسماء القبائل المنضوية على ابنائها . لتتخد مع الوقت طابع الحرب الاهلية .
منذ نهاية الحرب الباردة تطلع العالم إلى محاكمات نورمبرغ ما بعد الحرب العالمية الثانية كنموذج لإغلاق ملفات الصراع والحرب والعنف الفضيع . واسس لمحكمة الجنايات الدولية فيما بعد لتكون المنبر المفضل للمحاكمات الجنائية تأسيا بذاك الماضي العتيد ومعالجاته ، وبهدف ادماج اطراف الصراع في العملية السياسية . لكن تلك الاساليب المتوارثة افرزت مع مرور الزمن واقع مترهل ، بينما الجلوس على طاولة التفاوض المباشر بدلا من تجريم أو شيطنة الجانب الآخر ومغرياته ، انتج بيئات سياسية اكثر وفاقا وانسجاما . وهي عملية سياسية اجتماعية صعبة ومعقدة وتستلزم صبر ومراس طويل للقائمين عليها . اذ لا شك ان الحقد المتأصل في النفوس قد يدفع بفئات من الفرقاء الى الرفض ، بل وفي احيان اخرى ، العودة الى العنف وتأجيج المواقف الصدامية . كما حدث في جنوب افريقيا – على سبيل المثال – بعد حقبة مظلمة من الصراع والميز العنصري ، انتج الحوار ميلاد عصر جديد من الامن والاستقرار ، واضحى الاعتراف بالاخر وتساوي حقوق المواطنة اس الوفاق ، وقد اتخد شعار ” الحقيقة والمصالحة ” اسلوبا لتخفيف الاحتقان ، ومدخلا لاصدار العفو بالتزامن مع الاعتراف والاعتذار . ولم تخر عزائم القائمين والراعين للنهج المنغصات من مواقف رافضة ودامية وعثرات على الطريق . وتخلل العملية اغتيال زعيم الحزب الشيوعي، كريس هاني ، الذي يحضى بشعبية واسعة ، لكن النتيجة النهائية ، انتصر الوفاق السلمي والاندماج تحت مظلة نظام سياسي جديد يستوعب الجميع . وأصبح أعداء الأمس مجرد خصوم واجنحة لعملية سياسية واحدة .
لا يمكن للانقسامات السياسية ان تلتئم باعتماد نهج وحيد على غرار محاكمات ” نورمبرغ ” ، الضرورة تقتضي افق ارحب ، وعملية سياسية اجتماعية ناجمة عن اقتناع راسخ بامكانية تحقيق تعايش داخل الوطن الواحد ليس فيه منتصر وخاسر، وذلك وحده الخيار الكفيل بتمكين الناجين من الحرب لملمة جراحهم وجراح وطنهم ، وتدشين مرحلة جديدة ، وبدء المسير للامام ، ورمي مخلفات الماضي واحقاده .
المحاكم غير مناسبة لتدشين نظام سياسي جديد معافى بعد الحروب الأهلية ، ويمكنها ان تأتي فقط في ظل النظام السياسي الجديد ، كأدة لمعاقبة امراء الحرب ، ومرتكبي الفضائع الفردية ، ولتستثني بيادق اللعبة المأمورين . تلك حقيقة ادركها الزعماء الافارقة في معالجاتهم للصراعات التي تقصم ظهر القارة .
في المحاكمات الجنائية ، اما مذنب ، واما بريء . وفي غالب الاحيان المتهم مذنب والعقوبة تنتظره ، بدء من ابعاده عن المشاركة السياسية ، الى السجن لفترات قد تمتد بعمر الحياة . ذلك نوع من الاقتصاص الذي يشكل خطرا على الجانبين بالمدى الطويل . ففي الحروب الأهلية ، لا أحد بريء بالكامل ، كما لا احد مذنب بالكامل. والعنف الشديد نادرا ما يكون فعل مستقل. بل وفي أكثر الأحيان الضحايا والجناة يتناوبون الادوار في حلقة العنف ، الفعل ورد الفعل .
هل يمكننا تصور قبول البيئة السياسية في ليبيا لهكذا طروحات .. ام ان امر المصالحة الوطنية سيبقى معلقا الى ان حين عودة نخبة المتدربين على اسس ومبادىء المصالحة بدول الجوار .. ننتظر