المعوقات التي تقف أمام تحقيق العدالة الانتقالية

المعوقات التي تقف أمام تحقيق العدالة الانتقالية

  • المحامي / أحمد خمس

ولعل أهمها هو الآتي: أولا : غياب الإرادة السياسية : حيث أن الحديث عن تحقيق عدالة انتقالية في بلد ما ، بدون وجود إرادة سياسية تعتزم محاسبة مرتكبي الجرائم، يعد أمراً لا جدوى منه، لذا يجب أن تقوم الدولة بتطبيق عدّة خطوات :

1. عدم تسييس المحاكمات، أي نزع الطابع السياسي عنها، ويكون ذلك مثلا بتعيين مجلس مستقل للإشراف على التحقيقات والمقاضاة، مثلما حدث في جنوب أفريقيا في منتصف التسعينات.

2. افتراض البراءة قبل المحاسبة لضمان نزاهة المحاكمة، مثلما حدث في المكسيك عندما طلب الرئيس فنسنتي فوكس تعيين مدعٍ عام خاص، للتحقيق في الجرائم الفيدرالية التي ارتكبها الموظفون العموميون ضد الحركات الاجتماعية والسياسية، معلناً ضرورة وجود ثقة في القانون، ونفس الأمر مع اختلاف التوجه بعزل النائب العام من قبل الإخوان وتعيين نائب عام يلبي تبرئة أو إدانة من يرغبون .

ثانيا : عدم صياغة إستراتيجية واضحة : لا شك أن تخبط السلطة في صياغة القرارات، وعدم قدرتها على رسم طريق واضح للانتقال بالبلاد إلى وضع أفضل، يضعف كثيراً من فرصة تحقيق العدالة الانتقالية، لذا لا بد من وجود خطة إستراتيجية تصاغ بطريقة جيدة، حتى في حالة وجود عدد ضخم من مرتكبي الجرائم الذين يجب محاسبتهم. ولوضع خطة إستراتيجية ناجحة، لا بد من مراعاة الآتي:

• أولا : يجب أن تتسم الخطة بالشفافية، بالإضافة إلى رسم الخريطة قبل وضع أي إستراتيجية تفصيلية للمقاضاة، وذلك بإعطاء فكرة عامة عن نوع الجرائم المرتكبة، وزمن ومكان ارتكابها، والهوية المرجحة لمرتكبيها، ويمكن أن يعتمد رسم الخريطة على تحقيقات تفصيلية أو رسمية، كما ينبغي أن يقوم بذلك مجموعة مؤهلة.

• ثانياً يجب توعية الجمهور بإستراتيجية المقاضاة، وأن يتم ذلك بشفافية ووضوح، بالإضافة إلى مشاركة الإعلامي المهني والمجتمع المدني. ثالثا : عدم وجود نهج تقني ملائم ”لفهم جرائم النظام” : ولعل من أهم معوقات تحقيق العدالة الانتقالية، هو اختلاف تقنيات التحقيق في جرائم النظام، عن التقنيات المتعلقة بالجرائم العادية، حيث غالباً ما تكون الأولى “منظمة” يتم فيها تقسيم العمل بين المخططين والمنفذين، بالإضافة إلى وجود ترتيبات في بناء الجريمة وتنفيذها يجعل من العسير إثبات الصلة بين هذين المستويين، خاصة أن تلك الجرائم في كثير من الأحيان يتم ارتكابها من جانب كيانات رسمية، وغالباً بمشاركة أشخاص يتمتعون بقوة سياسية. أي أننا يمكننا تشبيه عمل النائب العام عند التحقيق في جرائم عادية، بمخرج الفيلم الذي تقتصر مهمته على وصف وقائع الجريمة لتحديد مسؤولية المجرم، أما عند التحقيق في جرائم النظام، فهو يشبه المهندس الذي لا تقتصر مهمته على وصف التنفيذ، وإنما أيضاً توضيح الطريقة التي تعمل بها عناصر الجهاز، وهذا يحتاج إلى وجود:

1. تعدد تخصصات القائمين بالتحقيق في الجرائم، لأن أغلب جرائم النظام ترتكبها قوات الجيش أو الشرطة أو قوات شبه عسكرية –سواء رسمية أو غير رسمية- وهذا يتطلب معرفة كيفية عمل تلك المؤسسات قانوناً، وتحليل تصرفاتها الفعلية، وأيضا كيف يتم هيكلة القيادة وأنظمة الاتصالات والأوامر والذخائر والإجراءات التأديبية. وللأسف قد يفتقر المحامون إلى المهارات اللازمة للقيام بهذا التحليل، ويمكن أن تكون المدخلات الكبيرة من الخبرات والتخصصات الأخرى مفيدة جداً في هذا العمل.

2. جمع الأدلة من خلال استرجاع الوثائق وتحليلها، وتحليل الاتصالات والمسائل التشغيلية والذخائر وطريقة رفع التقرير والممارسات التأديبية، لأن ذلك قد يقود إلى أدلة قوية عن السيطرة العامة، ويتطلب ذلك ابتكارا ومهارة في التعامل معها لمنع الأشخاص موضوع التحقيق من تخريب الأدلة.

3. يجب تحليل الأنماط عند التحقيق في جرائم النظام، حيث يشير كل نمط إلى مجموعة من الوقائع التي تنطوي على درجة من التخطيط والسيطرة المركزية، بسبب تكررها ومكان حدوثها وطبيعتها، وقد يساعد ذلك على إثبات أن جريمة بعينها جزء من عملية مخططة. ورغم أن جرائم النظام لا تتصل جميعها بشكل منظم، فإن التحقيق في الأنماط يمكن أن يكون حاسماً لتحديد مسؤولية الأشخاص الذين يعملون من وراء الستار.

4. يجب وضع نموذج مقترح لهيكل التحقيقات، وإنشاء وحدة متعددة التخصصات للتعامل مع الجرائم الخطيرة كالآتي: • محامون يتمتعون بالمهارة في طرق إجراء التحقيقات في جرائم النظام. • خبراء تحليل في مختلف الميادين” عسكريون، تاريخيون، سياسيون”. • عددٌ كافٍ من محققي مسرح الجريمة “الطب الشرعي” . • وحدة اتصال مع المنظمات غير الحكومية ومنظمات الضحايا لمساعدتهم وتوعيتهم بحقوقهم، وعلى سبيل المثال فإن 95% من المعلومات والحقائق في جنوب أفريقيا تم التوصل إليها عن طريق منظمات المجتمع المدني. • خبراء للتعامل مع الاحتياجات المحددة للنساء والأطفال. وقد تم استخدام هذا الهيكل من قبل في المكسيك.

رابعا : عدم احترام احتياجات وحقوق الضحايا : لا فائدة من الحديث عن العدالة الانتقالية، إذا لم يتم إشراك الضحايا في العملية، لأنهم يعتبرون الهدف من تحقيقها في الأساس، وأكثر من عانوا من غيابها، لذلك يجب على الدولة:

1. إشراك الضحايا في العملية : أي إقامة التوازن بين إعطاء الضحية دورا ملائماً في عملية المقاضاة، وبين تجنب إعطائهم انطباعا بأن لهم سلطة رفض إجراءات المقاضاة. ومن الناحية العملية سيعتمد أعضاء النيابة اعتماداً فعالاً، على استعداد الضحية لتقديم الأدلة ضد المتهم، ولكن الضحايا يستطيعون عموما تقديم معلومات محدودة لأنه ليس لديهم فكرة عن هيكل المجموعات التي تقف خلف جرائم محددة، لذا فمن المهم أن يفهم الضحايا إستراتيجية المدعي العام وأسباب اختيارهم كشهود ليشعرون بأهمية مشاركتهم في العملية.

2. حماية الشهود.أو مسيس : هناك عنصر جوهري آخر يجب مراعاته احتراماً لكرامة الضحايا، وهو كفالة الحماية الكافية لمن يتعين عليه الإدلاء بالشهادة، وكفالتها أيضاً بعد إدلائه بشهادته، وهو ما يمكن تسميته بمبدأ “عدم الإضرار”

خامسا : قيود تطبيق العدالة الانتقالية : ترتكز العدالة الانتقالية على تصور مركزي مفاده أن المطالبة بالعدالة الجنائية ليست مسألة مطلقة، بقدر ما يجب أن تتم موازاتها بالحاجة إلى السلم، والديمقراطية، والتوزيع العادل لنواتج التنمية، وسيادة القانون، وتواجه فى هذا الإطار جملة من القيود، مثل وجود نظام قضائي ضعيف أو فاسد أو مسيس، انتقال ديمقراطي هشّ أو شكلي، نقص في الأدلة الجنائية أو التعمية عليها وعدم إظهارها للمحققين، ارتفاع عدد مرتكبي الانتهاكات خاصة من المسؤولين الكبار أو رجال الأمن أو السياسيين المتحكمين في اتخاذ القرار، ارتفاع عدد الضحايا . العدالة الانتقالية بين السياسة والقانون :

من المفيد التأكيد أن العدالة الانتقالية ليست مجرد مفهوم قانوني قائم على عقاب المخطئين بصورة فردية، وتعويض المجني عليهم، بل هي قائمة في الأساس على إرادة سياسية تستهدف تحقيق العدالة للجميع، وإصلاح الأخطاء، والإرادة السياسية ليست مجرد إرادة الجهاز السياسي وحده، بل هي تعبر أيضآ عن إرادة الجماعات والأفراد التي تعرضت للانتهاك في الفترات السابقة ومرحلة الانتقال والتحول الديمقراطي . العدالة الانتقالية والتحول الديمقراطى : تتداخل العدالة الانتقالية مع التحول الديمقراطى في ثلاث عوامل رئيسة :

• تقوية الديمقراطية : فالديمقراطية لا يمكن أن تقوم إلا بوجود توافق بين مختلف الفاعلين السياسيين، وهو الأمر الذي لا يتحقق إلا بمصالحة البلد مع ذاته وأبنائه، ذلك أن بناء أي مشروع ديمقراطي يقتضي إشراك الجميع بدون إقصاء أو تمييز، بشرط إرساء ثقافة المحاسبة، وضرورة اعتراف المخطئين بما اقترفوه، وتوافق الجميع على احترام حق الاختلاف الفكري والعقائدي، والالتزام بعدم العودة لحالات النزاع والعنف .

• الواجب الأخلاقي في مواجهة الماضي : هناك واجب أخلاقي في ضرورة الاعتراف بانتهاكات الماضي، وعدم نسيان الضحايا والناجين من الفظائع التي قد تشكل إعادة الإحساس بالظلم، إذ يستحيل تجاهل الماضي وإلا طفا على السطح مرة ومرات ، لذلك من الأفضل إظهاره بطريقة شفافة . الارتباط بمعايير الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان : يحضر هذا العامل بشكل قوي، حيث نظام العولمة السائد حاليا لم يعد يقوم فقط على التبادل الاقتصادي، بل إن ذلك لا يحدث بدون احترام مبادئ حقوق الإنسان التي أصبحت معترف بها عالميا .

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :