ايام في الجندية – 1

ايام في الجندية – 1

بقلم :: عابد الفيتوري

خلال عطلة صيف العام الدراسي 1975- 1976 .. أعلن عن طلب الدفعة الأولى لتدريب الطلبة الأساليب العسكرية و فنون القتال ( دفعة 1/أ ) وتشمل طلبة المرحلة الثانوية ، وخلال شهرين يقضيهما الطالب بمعسكر التدريب .. اجرينا الفحص الطبي وكان التركيز على حدة النظر دون غيرها ، ضعف النظر الحالة الوحيدة المستثناة من التدريب .
معسكر أساس التدريب لا يزال على هيئته التي كان عليها ابآن العهد الملكي .. المدخل .. ساحة العلم في الواجهة .. خلفها مبنى المقهى .. وعلى اليسار قاطع الإدارة .. مجموعة من المكاتب مصطفة بشكل أفقي .. وهناك في الخلف ” الميز ” او المطعم .. ويساره دورات المياه .. وخلف قاطع الإدارة .. ميدان التدريب .. باحة شاسعة هي الأخرى .. وفي واجهة الإدارة مخزن السلاح وأمينه موسى آمو .. وخلف المقهى قواطع السكن .. خيم مصطفة إلى جوار بعضها البعض .. وما بين ستين إلى مائة طالب في كل خيمة .
استقبلنا الجنود ، ضباط صف ، وفرقة المجندين المستجدين قوامها 28 فردا ، كان ذلك بمقر أساس تدريب سبها المجاور لقلعة قاهرة ، لاحظنا نوعا من الارتباك على الجنود الذين كلفوا بإلقاء محاضرات ، واولها محاضرة حول الضبط والربط ، ” يقولك اسود قول اسود ، يقولك ابيض قول ابيض حتى وان بدأ لك اللون خلاف ذلك ” .
نستيقظ الساعة الرابعة فجرا ، يدخل الناده ، ” انهض .. انهض انته وإياه .. انهض يا تحفه انهض ” ، الكل يلملم أطرافه على وجه السرعة ، يرتدي لباس الرياضة ، قميص ابيض وشورت ازرق ، ويتوجه فورا إلى الساحة .. موعد حصة الرياضة ، مشرف الحصة نائب عريف ” احمد كاري ” من فرقة الصاعقة ، في بعض الأحيان يكتفي بجولات هرولة حول ساحة المعسكر ، لينتقل إلى ممارسة تمارين ” سويدي ” .. تمرين شد البطن والعضلات ، وأحيانا ولأغراض تأديبية تمتد الهرولة إلى حيث مقر القلعة .. وفي ساحة القلعة تمرينات وعودة لمقر أساس التدريب .. مسافة تقدر بحوالي 4 كم نقطعها صباحا ، ونعود منهكين يومها بالذات . تنقضي الساعة ونتفرق ، نصف ساعة لتغيير هندام الرياضة بالبذلة الكاكي الخضراء ، ومنها الإفطار ، قطعة خبز ومغرفة حليب .. كانت الفترة قصيرة وترى الجميع مسرعا لاقتناص لحظة والتأهب للجمع الصباحي ، موعد الجمع الصباحي الساعة السادسة ، تفتيش العريف أولا ، عن الهندام ، الحذاء ومدى لمعانه ، الأربطة ، وفي العادة لا تخلو من إدراج البعض ضمن قائمة التعليم الإضافي لتقصير ما ، إما أن سرة النطاق لا تلمع ، وانك لم تطلي سطحها جيدا بمحلول ” السيدروا ” .او ان البدلة غير متأنقة .. كما ان التأخير عن الجمع يهدد بالعقوبة ذاتها ، والتي هي تذنيب وسحل على الإسفلت الحارق في صيف فزان ، ولكم كان زملائي من على اليمين والشمال يتأوهون ، ولكم كانت تأوهاتهم موجعة كل صباح ، ونزف الدم والصديد وهم يهمون بتخليص سراويلهم من جلد الركبة ، وقد تشبث بها الجرح .
كانت ساعة التعليم الإضافي جحيم لا يطاق ، الكل يتفاداها ، بما في ذلك الطلبة الدائمين عليها ، تبدأ من الساعة الثالثة إلى الساعة الرابعة ظهرا ، ارض الميدان .. هرولة .. وضع البروك خد .. انهض .. وثانية ، وعاشرة .. وضع القرفصاء .. الزحف على الركبتين .. أرضية إسفلتية وفي صيف فزان ، يكاد وهجها يغني عن لدعة جمرة الإسفلت .. وحال شعور جندي الانضباط المراقب لتقهقر ما في الاداء ، يأتي ليكدم قدمك من الخلف ، لتطعن الركبة وتدمي .
بقاء الركبة متقيحة ولأيام متوالية .. وما أن يقارب جرحها ليندمل ، تلفحه ساعة تعليم إضافي مفاجئة ، او عامة ، ليذهب ذلك الحذر رماد .. ويعاد وقع الجروح والتقيحات من جديد .. امر مقيت يدفعنا دائما للتساؤل حول الاساليب الموروثة في الاعراف العسكرية ، والتقليد الغير ناجع .
في طرف ساحة الميدان ناحية القلعة ، بئر صرف صحي سطحية ” بياره ” ، وعندما ترقب احد زملائك وهو يعاقب هناك ، تتألم لواقعه ، وترتبك لواقعك أنت الذي يتهددك هذا النوع من العقاب في أي لحظة .. ذات مرة وأثناء التمام الليلي الذي يعقبه أحيانا وقوف استعداد لزمن مفتوح .. وتذنيب .. تجمهر الطلبة ولم ينفذوا أوامر الملازم ثاني القادم مؤخرا امحمد عبدالدائم ، وهو احد خريجي الكلية العسكرية وخلافه جلهم ضباط شرف قضوا رحلة العمر بالخدمة العسكرية ، اقل شراسة .. اذكر منهم ابراهيم الهمالي ، على ارحومه .. ولكونه في تلك الليلة الضابط المناوب بالحامية ايضا .. استدعى الانضباط وحرس الحامية ، وأجبرنا على الهرولة ليلا إلى ساحة القلعة .. وهناك انظم آخرون .. وبدأت ردة الفعل .. تمارين رياضية .. تمرين 6 .. تمرين 9 .. انتهاء بالزحف على الركبتين .. في تمرين 6 .. لم أقوى على المواصلة .. تلكأت .. فضربني الحارس المراقب على ظهري بقطعة خشب طويلة بيده .. انشطرت نصفين .
حادثة الرفض احدثت ردة فعل وقوبلت باستهجان شديد ، وفي صباح اليوم التالي ، فوجئ الجميع باستقدام فصيل من قوات الصاعقة ليتولى مهمة الإشراف على التعليم الإضافي ، وحصة الرياضة المسائية .. 30 عنصر من قوات الصاعقة ، عضلات أجسادهم تتحدث قبل الأوامر .. وتحولت حصة الرياضة المسائية هي الأخرى الى أشبه بالتعليم الإضافي .. تمرينات .. وإجهاد .. وكثيرا ما وقع احد الطلاب مغشيا عليه . وأي التفاتة له ، يصرخ المدرب ..( خليه .. انشالله يموت ) حالات القي ، والدحرجة على الأرض .. غثيان وارق لا حدود له .
في ذات الأيام ، اتفقنا انأ وصديقي حمادي من واحة أم الأرانب ، قلت له ، طقس اليوم حار جدا ، وأنا لا أقوى على تأدية حصة التعليم الإضافي ، قال لي وأنا كذلك ، وبلغنا أن أفراد الصاعقة يتحفزون لإيداءنا ، اتفقنا أن نضع إلى جوارنا أدوية ونتظاهر بأننا مرضى .. نائب العريف محمد هاشي الطيب الودود الملتزم بالأمر العسكري ، حتى هذه لم تشفع عنده ، ( تعليمات عندي .. الخيم ما يقعد فيهن حد .. ما يقعد فيهن حد .. اطلع أنت وإياه .. قدامي .. اجمع في الساحة ) .. لا نقاش .
خرجنا من الخيمة ، توارينا عن نظره وسط زواريب الخيم بينما يهم بمتابعة غيرنا ، انحرفنا يسارا والتحقنا بفرقة الطلبية المكلفة بتنظيف الحمامات .. الضابط وقف أمام المبنى وبدأ ينادي على الأسماء ، تسللنا من خلف دورة المياه إلى الممر الخلفي الضيق بين الخيم والسور ، نحو المطعم ” الميز ” ، به فرقة طلبية أخرى لتنظيف أواني الطبخ والمطبخ ، الباب الخارجي مقفل ، البعض يهمون بتنظيف الطاولات في الصالة ، وآخرون بأدوات الطهي عند الصالة الأخرى .. طرقنا النافدة ، وبلا تردد فتح زميلنا النافدة ، لمحنا عن بعد رئيس عرفاء السرية ، صاح علينا ” أنت واياه .. اجمع عندي ” .. كنا قد قفزنا داخل الصالة حينها ، حيلتنا الملابس الكاكي الخضراء موحدة ، انهمكنا معهم قليلا .. لكن رئيس العرفاء ظل يتابع ، وقف على النافذة من الخارج وسأل الطلبة : ” اثنان قبل قليل قفزوا من النافذة أين هم ؟ أجاب الطلبة جميعهم بالنفي ، وان لا علم لهم بأحد ، وهم كما هم لم يأتي لهم وجه جديد . عندها ولجنا إلى الصالة الثانية ، أدوات الطبخ ، حلة ضخمة ” كازان .. قدر ” يتقاسم تدليكها باليد وتنظيفها اثنان من زملاءنا ، أخدنا عنهم الدور وهم في أمس الحاجة إلى معين ، وانهمكنا في تنظيف الحلة ، نخبئ رؤوسنا بداخلها .. ثم خرجنا لنختبئ ونتسلل بين الخيم .. وتحقق لنا ان تخلصنا من ساعة ذلك اليوم .. ولم يكن ما انتظرناه بعدها أسوأ منها .. حرارة الإسفلت في تمرين 6 يومها ، نشرت طبقات من بشرة أصابع وأيدي الكثير من زملاءنا .
تبدأ التدريبات صباحا ، الحصة الأولى والثانية في العادة ” مشاة “.. ضوابط المسير العسكري ، الايدي مظمومة ، الاذرع مفرودة ، هامة الرأس الى الاعلى ، النظر للامام ، الطربزة على القدم ، يخللها تعويد الرجل على البقاء مرفوعة أكثر فترة ممكنة لإتقان وضعها على الأرض مرة أخرى ، في وضع الاستعداد والاستراحة .. ونظل نتلكأ في التنفيذ لعدم القدرة على الاستمرار على تلك الهيئة ، ينال من التعب .. والعريف يصر على التأكد من الاتقان ومراقبة كل على حدة ، يمضي وقتا اطول مما ينبغي ، وما ان يلحظ ترهلنا يكرر عبارته المعهودة : ” خلي رجلك مرفوعة فوق نبي اندير عليها طاسة شاهي ” . كنا نهمس .. ربما قصد شاي كيس سريع التحضير .
إتقان حركة الطربزة على القدم اثناء المسير ، توحيد الصدمة تلبية لإيعاز ” رجل ابدل ” .. يجب أن ينفذ الجميع وقع الضربة على الأرض وكأنها ضربة شخص واحد .. كانت هذه اللمسات من إتقان المسير تبعث السرور في نفس نائب العريف بونجيم .. كان بدوي الطباع ، يستمتع حد الهيام وهو يلقي الأوامر على فصيل عسكري ، او سرية ، يتفاعل مع الاستجابة وبالذات في الطربزة ، صدم الأرض بحافة القدم وبقوة وفي توقيت موحد .. وكنا نتفق على أن نقدم عرض للمسير غاية في الاتقان.. الطربزة .. درزة رجل ابدل .. لأجل ذلك الرجل البدوي الطيب ، ” وعندما تزهوا الربابة عنده “. نراه يترنح ويحجل ويهوش … ” ها .. ها .. ها .. حت حت حت .. شوفي التطربيز يا رقيه ” .
الحصة الثالثة وما بعدها الى حين انتهاء الدوام ، تخصص للتعليم على الأسلحة ، بندقية ” اف إن ” البلجيكية في الصدارة .. ” الهاون 51 ” .. ” الهاون 52 ” .. ” المسدس البلجيكي 6 مم ” و ” الغدارة بريتا الايطالية ” .. ” بندقية الكلاشنكوف الروسية “.. ويتدرج التدريب الى التخصص على سلاح ثقيل .. مجموعات .. ” م . ط ” الرشاش المضاد للطائرات .. مدفع 106 .. الرشاشة المتوسطة .. الرشاشة الخفيفة .. وفي ذات الوقت ينبغي ان يحضى كل طالب مجند باجادة تامة وكافية لطرق استخدام أي من الأسلحة الثقيلة .
البندقية ” اف ان ” ، بلجيكية الصنع ، المدى المؤثر يصل الى 1800 م ، من عيوبها الردة الخلفية ، ما يستوجب تثبتها على الكتف بدقة اثناء الرماية .. البندقية ” كلاشنكوف 7- 62 ” .. خفيفة الوزن ، يتسلح بها جندي المشاة ، لها اربع انواع من الرصاص ، حارق خارق ، اعتيادي ، تنوير للارشاد الليلي ، خلب لأغراض التدريب . مزودة بحربة تستعمل للصولة والقتال القريب .
مكونات البندقية ، السبطانة ، الفرضة ، الشعيرة ، الحواظن ، غطاء البدن ، الاخمس ، الحربة ، مجموعة الاقسام ، المغلاق ، المدك ، الابرة .. الخ .
آلية البندقية ..عند الضغط على اصبع الزناد ، يتخلص الظفر من ثنية المدك ، تتقدم الاقسام للامام لتخطف اول اطلاقة اعلى المخزن وتحشرها بالحجرة ، تطرق الابرة مؤخرة الاطلاقة ، الكبسولة ، يحدث فعل اشتعال البارود ويتولد الغاز الكافي لدفع الرصاصة الى الامام ، في لحظة تكاثف الغاز ومغادرة الرصاصة لفوهة السيبطانة ، يتم بالتزامن معها تسرب الغاز الى حجرة المدك ، يندفع الى الخلف ، وتعود الاقسام معه بمجملها وتتكرر العملية .
كانت الحراسة مشددة ، التدريب عنيف ، ويبدو أن التعليمات صدرت بذلك ، فقد عمت موجة التدريب المعنّف للطلبة كل معسكرات البلاد .. وسقط قتلى أثناء التدريب في بعض منها .. كان لزاما لمن يفكر في الهرب أن يعمل ألف حساب .. هناك التمام الصباحي .. والتمام نهاية الدوام ، وأحيانا تمام فجائي في الفترة المسائية ، والتمام الليلي كالعادة . في طرف السور ناحية القلعة تهتم بالجدار ، ومن المخاطرة الهروب من هناك ، إذ لا مفر من المرور من أمام حرس البوابة وأنت متجه نحو المدينة سبها .. وسيشك بأمرك وتعاد وتعاقب ويدرج اسمك ضمن المستهدفين بالتذنيب بسبب او بلا سبب .. وكم كنا نبتسم عن بعد عندما مر زميلنا عبدالرحمن من أمام حرس البوابة يرتدى زي عامل مصري .. وأجاد التسلل .
للهروب من المعسكر ، كان هناك أيضا فرصة من خلال القفز على السور الخارجي خلف الجامع ، لكنها محفوفة بالمخاطر ، الوقت الآمن للهروب الساعة الرابعة ظهرا ، والعودة قبل التمام الليلي .. وفي الحالتين تحتاج الى رفيق يمهد لك الطريق ، يراقب الحارس خلف الجامع لحظة تواريه نحو الزاوية الأخرى ، وعندها تصدر الإشارة .. والثانية عند العودة وما إذا كان الرفيق الممهد للتسلل في انتظارك .. ذات مرة جرى جمع وتمام استثنائي في الفترة المسائية ، وتبين أن بعض الطلبة غير موجودين داخل المعسكر .. وقامت قيامه النقيب شرف ” الله يذكره بالخير وزمرة الضباط الشرف .. الى ضباط الكليات ” .. والحذر في مثل هذه الموضوعات أن تصل إلى مقر الحامية .. ظللنا تلك الليلة وقوفا في الساحة ، وانتظار للفارين .. بعدها جيء بمن نحس حظه واختار ذلك اليوم عن غيره .. حالما يقترب يصفعه الآمر على وجهه .. من أين هربتم ؟.. ” من خلف الجامع سيدي ” .
بعد مرور 45 يوما من التدريب والإغلاق .. سمح للبعض بالخروج مساء ولمدة ساعتين فقط لمن تستدعي ظروف عائلية .. وصار التزاحم على إذن الخروج .. وأحيانا ضابط صف في الإدارة بحكم العلاقة التي تبادلنا والعشرة .. يمرر اسمك .. كلمة من ضابط بتوصية .. ضوء اخضر .. كان بودنا أنا وصديقي ” احمد امبارك الجماعي ” ان يوافق على طلبنا يومها .. لأننا مللنا وسئمنا وقررنا الخروج ولو لساعة خارج أسوار المعسكر .. منح أذونات الخروج خفف من وهج الهروب خفية .. تسللت أنا واحمد من خلف الجامع وكنا خارج السور .. الصيف وفترة القيلولة .. أوحال رمال ما وراء مزارع ” كامب الطيوري ” في التفافة طويلة أرهقت كاهلنا حتى تمنينا أننا لم نختار .. تجولنا بسبها وعدنا على عجل .. المسافة تتجاوز 5 كم .. تعبنا .. تعبنا .. احمد كان صديق وادع وطيب ، أدعو له الشفاء اليوم .. لقد زرته قبل سنوات بسكناه واحة هون ووجدته صار يتوكأ على عكازين .. تقلصت حركته .. تألمت لحاله .. حدثني يوم أصابته رصاصات مزقت نسيج الأهل هناك .. خرج من منزله .. ووقف في الوسط يهتف للطرفين توقفوا .. فوقع جريحا .. لتكون سبب في رحلة طويلة من التنقل بعدها .. رحلة جابت مستشفيات الداخل والخارج بحثا عن عودة إلى ما قبل .. ولم يحدث ذلك .. لقد قاسى الكثير .. وعلى رأي المثل : ” يديرها الأبتر وياحل فيها طويل الذيل ” .
فصيلنا الفصيل الثالث بالسرية الثانية .. يرأس السرية رئيس عرفاء سرية ، لكل فصيل عريف ومجموعة من نواب العرفاء والجنود المستجدين .. في مجموع من 6 الى 8 عساكر رفقة الفصيل .. يوم انتهاء فترة التدريب وإجادة استخدام سلاح ما ، يتولى احد الضباط إلقاء المحاضرة الأولى التي تعرف بالسلاح الجديد ، نوعه ، مميزاته ، طرق استخدامه وأفضلها ، ثم يترك للسرايا تتفرق .. وتتجمع كل فصيل على حده ، يقف العريف في المقدمة ، ونكون قد اصطففنا أمامه بانتظام قبل اخذ وضع الجلوس .. استعدادا لمحاضرة أخرى في البراح المفتوح .. وتحت شمس فزان الحارقة .. العرق ينزف منا انهار .. ” البريه ” او الكاب بات رقعة مبللة .. ننصت إليه على مضض .. لم يكن العريف كما معظم نواب العرفاء قادرين على الوقوف وإلقاء محاضرة او تكرار ما قاله الضابط بذات المهارة .. ومعرفتهم بالأسلحة هي الأخرى قديمة ومحدودة .. ويوم درس الرشاشة الخفيفة .. حضر العريف في أول لقاء بعد محاضرة الضابط .. وتفاديا للشروحات .. طلب منا أن نلخص ما فهمنا من المحاضرة .. وقفنا الأول تلو الآخر .. يصف السلاح ويكرر مزاياه عن ظهر قلب .. احد الزملاء أضاف اثناء وصفه لها وقال ” كما يمكننا أن نضيف لها خزنة تحمل 50 طلقة .. يمكننا أيضا أن نضيف لها تلفزيون صغير ..” هنا انتفض العريف .. أي تلفزيون هذا ؟ رشاشة وتلفزيون ؟ أجاب الطالب : هكذا سمعت .. وهذا ما قاله لنا الضابط في المحاضرة ‼ . وصدح الجميع ، طلبة الفصيل بالكامل .. نعم .. نعم .. فعلا .. هكذا قال الضابط في المحاضرة بالنص .. يمكننا أن نزودها بتلفزيون صغير في حالة السلم .. احتار العريف .. وما عساه أن يكذب ما قاله الضابط .. اختار مخرجا وقال : ” لنترك الأمر إلى حين رد المشورة على الضابط .. وكل طالب ملزم بالوقوف والشرح على الرشاش دون ذكر إضافة تلفزيون .. لكن جميع الطلبة ما أن يأتي على إضافة خزنة ، ينطق وتلفزيون .. وهنا يشتد نزق العريف .. وهو الإنسان الطيب المحدود المعرفة .. وقد بلغ من الكبر عتيا .
في المطعم تحضر معك ” الكاويطه ” الخاصة بك ، صحن من الألومونيوم مربع الشكل وبه مقبض قابل للثني ، مع الملعقة ، وتستلم غرفة من الأرز او المكرونه ، وتكون محظوظا لو أن الغرفة أتت بشيء من نتف اللحم .. السوس الاسود يغطي سطح مرقة الأرز الجاري ..( امبكبك ) .. نتعامل معها بالحذف ، والتغاضي أحيانا مضطرين لكثرة السوس الممزوج بخلطة الأرز .. يبدو أنها شحنة مخزنة لوقت طويل على عادته في اكتناز ما يكفي لحروبه المتوقعة والمزمع إشعالها .. تجلس على الطاولة المستطيلة .. تنتظر الإيعاز .. كنا نستهوي – على سبيل الدعابة – ترديد إيعاز احد رؤساء عرفاء الوحدة وهو يتلكأ في النطق ” داوم في ليكال ” … ابدأ بتناول الاكل .. طريقة نطقه وبالعامية ، يبتسم لها زميلي ويمرر العبارة همسا ، ” داوم في ليكال ” ، توقيتها حال اصطفافنا في هدوء ، جالس على كرسي الخشب الممتد ليسع 20 طالب أخر ، الساعة الثالثة ظهرا .. صيف فزان الحارق .. العيون مشدوهة تسرق النظر لصحن الأكل ، والامعاء تعتصر .
في العرف العسكري يفضل إعطاء فرصة للمجند لالتهام ربع إلى نصف الصحن ، لكن رئيس العرفاء هذا يوقف اول لقمة في البلعوم .. ” ثابت ” ، رفعت الأقلام والملاعق .. ” اجمع خارج ” .. انتهى . لا تهمه كوارث ” ثابت ، ولا إعطاء فرصة لالتهام نصف الصحن على الأقل .. ثابت .. تعني : ضع الملعقة على الطاولة ، “ونوض .. اجمع خارج ” .
قبل انقضاء فترة الشهرين بقليل ، درجت إذاعة المعسكر على بث نداء للطلبة يدعوهم إلى الانخراط في سلك الخدمة العسكرية ، والمبادرة للالتحاق بالكلية العسكرية ” كلية الضباط ” .. وعلى من يرغب يمكنه تقديم طلب للإدارة .. الكلية تقبل الجميع ولا تشترط الحصول على الإجازة الثانوية .. وتقبل أيضا الطلاب الناجحين من الصف الأول الثانوي أمثالنا .. صديقي تردد كثيرا وهو يفكر في كتابة طلب الالتحاق ، وفي كل مرة يلح أن نلتحق سويا ، ولم أوافقه ، وكنت دائما أقول له ، هذا العذاب الذي رأيته هنا ، لا أريد له أن يتكرر في حياتي ، وبرغبتي ، كما إنني لا أقوى على مضارعة قانون واحد يشد قيدي .. اسمه قانون مدني .. فهل تريد مني أن أكبل نفسي أيضا بقانون عسكري صارم ، لا يعترف بالمبررات ولا الضرورات .. حدث بعدها .. مع بداية العام الدراسي أن حضر ضباط إلى المدرسة الثانوية ، قبل فترة الاستراحة ، واخذوا عدد كبير من الطلبة ، مع مراعاة الانتماء القبلي .. ذهب صديقي من بينهم ، فوجئت فترة ما بعد الاستراحة بعدم وجوده ، لم يترك لي أي توصية ، وفي اليوم التالي بلغني انه تم نقلهم من المدرسة مباشرة إلى المطار .. وهم الآن في طرابلس .. التحقوا بكلية الضباط .. في ذلك اليوم لم يكن أمامه خيار ، فقد وقع عليه الاختيار ، ومن على كرسي المدرسة وجد نفسه في طرابلس ، وبعد سعات يرتدي الزى العسكري المنضبط ، ويقف بساحة معسكر طريق بن غشير .. عدد من منتسبي تلك الدفعة أصبح فيما بعد من المقربين لدوائر القذافي الأولى .
بعد مرور فترة الأساس الأولى ” شهرين ” وجد فرصة للهروب من الكلية ، فلم يتركها .. وظل مختبئا لزمن ، ولا احد يدري مكانه سوى احد زملائنا .. تحدث بحرقة عن أنواع التذنيب او التعذيب والعقاب هناك ، وقوف استعداد بالساحة إلى الصباح .. أعداد من يتساقطون أثناء التدريب المرهق ، حالات الإعياء والوهن ، وعن التربية التي تريد لك أن تتقبل الإهانة تلو الإهانة بصدر رحب .. أنت التحفه .. وووو ..كي تتعود أن تكون حقيرا أمام مرؤوسيك .. بعدها آثر أن يعود للدراسة من جديد .. كان يضايقه أن اسمه ضمن المطلوب القبض عليهم .. وفي لحظة ما .. قرر أن لا يبقى هكذا مهددا حيثما ذهب .. عاد برجله وملء إرادته إلى ثكنة الكلية العسكرية .. كان زملاء الدفعة قد أصبحوا ضباط .

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :