عمر عبد الدائم
الفلاسفة يعيشون في أزمانٍ غير أزمانهم .. إنّهم سابقون لأزمانهم بمسافات طويلة ، لذلك يكون من الصعب على من حولهم أن يفهموا شخصياتهم أو أن يجدوا تفسيراً لتصرفاتهم. فكيف يكون حال الفيلسوف إذا عاش في غير مكانه وزمانه؟ هذا ما حدث مع .. “عمي بن طاهر” . بنطاهر ( هكذا أرسم حروف اسمه ليتماهى مع الطريقة التي كان أهل حيّنا ينطقونه بها ) .. “بنطاهر” شخصية حقيقية ، ليس للخيال من حظّ في تسطير ما سأكتبه عنها ، وقد علِمتُ قبل سنوات قليلة أنه مازال حيّاً يرزق، ولا أعرف هل مازال حتى كتابة هذه السطور أم توفاه الله، فقد بلغ الرجلُ من العمر عتيّاً بلا شك إذ كنّا صغاراً في المدرسة الابتدائية التي كان هو مباشراً (فرّاشاً) فيها، وكان حينها في منتصف عِقده الخامس من العمر على أقل تقدير. كان “عمي بنطاهر” يختلف عّمن حوله، شكلاً، وفكراً.
كان أنيقاً ، على عكس ما يبدو عليه الرجال في حينا شبه البدوي . ذلك الحيّ الخارج لتوّه من بيوت الطين والصفيح ومن الدّلاء الساحبة لمياه آبارٍ حُفرت بالفؤؤس لسقيا الزرع والضرع ، وإن كان لايزال للفنار تألقه في الحيّ .. وللبردعة كذلك حضورها. لم يستطع جُلّ أهل الحي الابتعاد عن بدائيتهم والتي تُسمّى تأدّباً بداوة ، فكانوا يُسكِنون الماشية داخل بيوتهم ، ولا يولون أهمية تذكر للتجديد ، ويهملون التعلّم في المدارس ، ويسخرون ـ في كثير من الأحيان ـ من .. بنطاهر . بنطاهر المختلف، كان رشيقاً أنيقاً، يدخن البايب “البِيبّة” ويلبس البنطلون والسترة دائماً.
وكان يضفِر شعر رأسه فيتدلّى قرنٌ صغير تحت طاقيته من الخلف ، في حين تغطي عينيه دائماً نظارة مُعتِمة لم نتبين ، ولم نسأل ، طيلة وجوده معنا في المدرسة هل كانت طبيّة أم شمسية. بنطاهر المختلف ، لم تكن تستهويه الأغنام وتربيتها ، وبالتالي فقد تحرّر من ربقة استعمار الخراف وتسمينها التي كانت همّنا الأول ، بل كانت لديه دراجة هوائية تبدو دائماً نظيفة وبها جرسٌ رنّان ومصباح أمامي ، في حين كان معظم رجالات الحي يركبون الحمير لمواصلاتهم .. ويفتخرون بها ! ومع ذلك ، فلم يكن كلّ ما سبق هو ما يميز بنطاهر المختلف . بل كان ما يميّزه حقّاً ، وما يستدعي دراسة شخصيته شيءُ آخر ، شيءٌ أعمق من الشكل والمظهر ، وإن يكن في اعتقادي أنّ للشكل و المظهر الذي تميز بهما ما يشي برابط قويّ على عمق اختلافه و نظرته للأمور . كان بنطاهر يَقلِبُ كلّ شيء (أو لعله يعيد الشيء لحقيقته) فالرجل في نظره امرأة، والمرأة رجلٌ، والأبيضُ أسود والأسودُ أبيض.. وهكذا.. وهو يتحدث مع الكل بهذه اللغة المختلفة، الجميع بلا استثناء، مع الكبار والصغار، الرؤوساء والمرؤوسين، مع مدير المدرسة ومع الأساتذة والفراشين ومع التلاميذ وأولياء أمورهم، مع البسطاء من الناس و مع علية الحي..
تُرى لماذا أخذ “عمي بنطاهر” هذه الفلسفة كأسلوب حياة طوال عمره؟ وما الذي كان يقصده بها؟ وهل كان يستمتع بهذا القلبِ المتعمِّد للأشياء؟ أم كانت هي الصورة الحقيقية التي يراها من وراء نظاراته السوداء؟ أسئلة كثيرة لا أظنني سأحظى بجواب لها على الإطلاق، فقد تكون الاجابات رحلت مع “عمي بنطاهر” إلى الأبد.. الرائحة، والصورة، تأخذك أحياناً في طرفة عينٍ لأزمان بعيدة لم تكن بالغها حتى بشِق الأنفس.. وهذا ما حدث معي اليوم حين رأيت هذه الصورة فطارت بي إلى زمن “عمي بنطاهر” وأنا في الصف الأول ابتدائي بمدرسة حي القارة حين كان يدخل علينا الفصل فجأة والمدرس في عِزّ شرحه فيمر بين مقاعدنا المزدوجة (نحن التلاميذ) راشّاً المبيد (الفليت) حولنا بهذه الآلة الصفراء..