بيت الرواية في تونس يحتفي بالرواية الفلسطينية

بيت الرواية في تونس يحتفي بالرواية الفلسطينية

تونس :: نيفين الهوني

. احتفالاً بــ “اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني”، نظم “بيت الرواية” في الأيام الماضية، تظاهرة بعنوان “تحولات الرواية الفلسطينية ” بمشاركة كُتاب ونقاد من فلسطين وتونس وتهدف إلى “تسليط الأضواء على واقع الرواية الفلسطينية وأهم المتغيرات الحاصلة على مستوى أشكالها ومضامينها، لا سيما خلال العقود الماضية” وفق بيان للجهة المنظمة.

ومن بين المشاركين الأديب الفلسطيني توفيق فياض، فضلاً عن لقاء مفتوح مع الروائي إبراهيم نصر الله وأيضاً لشهادات عدد من الروائيين والنقاد الفلسطينيين مثل ناجي الناجي صاحب رواية “سماء وسبعة بحور”، والكاتبة الفلسطينية ثورة حوامدة الحاصلة على “جائزة كتارا للرواية العربية” عام 2018، إضافة إلى شهادة من الناقد والكاتب الفلسطيني عبدالرحمن بسيسو.

واشتملت التظاهرة على ندوة محورها “الرواية الفلسطينية والمعتقل”

قام خلالها الكتاب والنقاد رؤيتهم لمضامين الرواية الفلسطينية الحديثة الموجهة في أغلبها لسرد الواقع الفلسطيني من منظور سوسيولوجي وسياسي وفق المتغيرات المجتمعية الحاصلة، لا سيما خلال العقود الماضية وانعكاساتها على الراهن الفلسطيني وقد ضمت الندوة شهادات هامة في الرواية الفلسطينية اخترنا أبرزها إصغاء للعالم يقول إبراهيم نصر الله في شهادته كان اللقاء الأخير لي بتونس قبل عشرين عاما لا يمرُّ الوقت بسرعة / نحن الذين نمرُّ بسرعة كل الشكر لكم، لتونس، لبيت الرواية، على تنظيمكم لهذا اللقاء الذي يعني لفلسطين ولشعبها ولثقافتها الكثير، في زمن تزحف فيه أنظمةٌ كثيرة للتطبيع مع العدوّ الصهيوني، وتستميت وهي تتبنى روايته.

تغيَّرَ فيَّ الكثيرُ

 أجلْ شابَ شَعْري

 الخطايا أقلُّ وأما الخُطى

 فهْيَ أقصرْ!

قهوتي في المساءِ

 أخفُّ وشاييَ

 من دونِ سُكَّرْ!

 أميلُ إلى الأغنياتِ

البسيطةِ أكثرَ

من أيِّ يومٍ مضى

وأسيرُ على مَهَلٍ

وورائي عواءُ ذئابٍ

وعشرونَ خِنْجرْ أُفكِّرُ

في كلِّ ما مرَّ لكنْ

.. أُطيلُ تأمُّلَ ما ظلَّ أكثرْ!

 وتكفي ثلاثُ دقائقَ

حتى أنامَ وأصحو

وخمسُ دقائقَ كي أتذكَّرْ

مروري على الأرضِ

مثل الفراشةِ حُلْماً تجلَّى

وحُلْماً تَكسَّرْ ويَفتنُني قمرٌ

مطمئنٌ لعشّاقهِ

وسحابٌ فقيرٌ إذا مرَّ أمطرْ

 خسرتُ كثيراً لأكسبَ نفسي

ظلالي مملوءةٌ بالمياه

وقلبيَ لما يزلْ، بعدُ،

 أَخْضَرْ

 كنت أتمنى أن تكون هذه القصيدة شهادتي، لكنّ لكل مقام مقال.

من الصعب أن أتحدثَ عن جانب ما، في التجربة الأدبية، وأن أَغَفلَ عن جانب آخر، لأنني لا أستطيع أن أفصِل الشِّعرَ عن الرواية في تجربتي، فهناك أعمال شعرية تكمل الروايات، وهناك روايات تكمل الأعمال الشعرية، كما أن أي تجربة أدبية لا يمكن أن نعزلها عن تجربتِنا الحياتية وتجربتِنا الثقافية؛ عن أحلامنا التي تحققت، وأحلامِنا المُعلَّقةِ في سماء أرواحنا

. أكتب هذه الشهادة ببعض من سلام داخلي، فإذا كان الكبير نيرودا قد قال ذات يوم: (أشهدُ أنني قد عشت) فإنني أقول: أشهد أنني قد حاولتُ، في كتابتي، وفي انحيازي لكلِّ ما هو طيب وجميل وحرّ.

أن تكتب يعني: أنك بحاجـة إلى التجربة أولا.

ولكن .. من قال إن العيش مسموح؟!

ولِدت لأسرة مكونة من أب وأم وستةِ إخوة ٍوأربع أخوات؛ من أبوين أميين أدركا مثل كثير من الآباء والأمهات أن عليهما بذل الكثير لكيلا يعيش أبناؤهم في العتمة القاسية بعيداً عن ضوء الكلمات. وفي مخيم الوحدات، كان الصف المدرسي خيمةً والمقعد تراباً مبتلا، ولكلِّ ثلاثةِ أو أربعةِ أطفال كتابٌ مدرسي واحد يشتركون فيه. من هذه النقطة بالذات تمنّيت أن يكون لي كتاب؟ كتاب لي وحدي.

وحين تمَّ ذلك، تمنيت أن يكون لي كتاب لا يملك الطلاب مثلَه، فذهبتُ أبحث عنه في قاع المدينة لدى باعة الكتب على الأرصفة.

لم أعرف أيام المدرسة، غير العاصمة عمان ومدينة بيت لحم التي كان أبي يأخذني إليها لزيارة جدّي هناك، مرورا بزهرة المدائن: القدس؛ لكن الكتب كانت تتيح لي أن أزور باريس وأعيش عذابات (أحدب نوتردام)، وأذهب إلى ألمانيا وأعيش (آلام فارتر)، وأمضي إلى إيرلندا وأعيش حكاية (دوريان غري)، وأذهب إلى إسبانيا وأعيش مغامرات دون كيخوته الحزينة، وأصعد إلى السويد وأعيش ذلك الجوع الذي يشبه جوعي في رواية (الجوع) لكونت هامسون، وأصل إلى أمريكا لأعرف عذابات السّود في رواية (كوخ العم توم)

. لست أدري لماذا لم يقع بين يديَّ أيُّ كتاب مُفرح ! لماذا لم تقع بين يديَّ إلا القصص الحزينة؟! وهكذا بتُّ على قناعة أن العالم مصنوع من الحزن ولا شيء غيره. ***

كان البحث عن وسيلة تعبير يؤرقني دائما.. حيث لم أكتفِ خلال المرحلة الثانوية بالقصيدة.. كتبتُ الخاطرة، والقصيدة العامية – وقطعت شوطا في هذه- وكتبتُ رواية ساذجة احتلَّت دفتراً كاملاً من تلك الدفاتر التي كانت توزِّعها علينا وكالة الغوث حاملة شعار هيئة الأمم المتحدة (المتحدة ضدنا بالتأكيد!)، وكتبت نصف رواية أخرى، ورسمت قليلا، وصورَّتُ كثيرا، لكن الحلم الذي سكنني هو:دراسة الموسيقا بعد الثانوية العامة؛ لكن ذلك كان مستحيلا، ولم يكن الذهاب إلى الجامعة ممكنا بسبب الظروف المادية الصعبة التي تعانيها الأسرة.

ولذا وجدتُ نفسي على مقعد من مقاعد معهدٍ للمعلمين. ومن ذلك المقعد، وجدت نفسي في أول طائرة أستقلُّها في حياتي، متوجّهًا إلى الصحراء لأعمل مدرّسا، وهناك ولِدتْ بذرةُ روايتي الأولى (براري الحُمّى) في الفترة التي كنت أكتب فيها قصائد ديواني الأول.. لم أُمضِ هناك سوى سنتين، عدتُ بعدهما بتأثير ذلك الموت الذي عشتُه، وبتأثير كتابات غسان كنفاني التي قرأتها في تلك الصحراء، فأشرعتْ ليَ بابًا جديدًا على نفسي، وهي تُشرع لي بابا على معاني الحياة. فاصل: الذي يتركُ الآخرين يسقون زهور حديقته لا يستطيع أن يرى تفــتُّـحَ الأزهـار فيها. * كانت قراءاتي الأولى عشوائية، ترضى بالمتاح، المتداول، لكن قراءاتي اللاحقة في مرحلة التشكُّل (وقد أدركت حاجتي الماسة لتثقيف نفسي، فوضعت برنامجا دقيقا التزمت به)، كانت هذه القراءة منظَّمة، فقرأت ما استطعت الوصول إليه من الشعر بشقّيه القديم والحديث، العربيِّ

والعالمي، ثم المسرح الإغريقي، مسرح شكسبير، مسرح العبث، الأساطير والملاحم وحكايات الشعوب، الرّواية، ولعِبتْ السينما دوراً أساسيّا لما تتمتّع به من قدرة مدهشة على استيعاب بقية الفنون وهضمها وفي النهايــة لا يهمّ كيف يولَد النصُّ. السؤال: هل سيعيش؟!

يذهب الكاتب في بعض الحالات إلى الأرشيف والشهادة والمكتبة، وفي بعض الحالات يكون هو الأرشيف والمكتبة، فعملية التّراكم، في موضوع ما، تتمّ على مدى سنوات طويلة من المعايشة، وحين يصل الكاتب إلى لحظة الكتابة، يكون كلُّ شيء في داخله. حدث معي هذا حين كتبتُ (حارس المدينة الضائعة) و (زيتون الشوارع) و (عو) و (مجرد 2 فقط) و (طيور الحذر) وعملي الأخير الذي سيصدر في ربيع العام القادم. في حين أن بعض الأعمال يستغرق التحضير لها أكثر من عشرين عاما، كما حدث مع “زمن الخيول البيضاء” و “ثلاثية الأجراس”. في حالات كثيرة قد تحتاج القصيدةُ، كالرواية، للبحث، كما حدث معي في قصائد: (الطائر)، (راية القلب ـ ضد الموت) وديوان (الحب شرير) الذي رحتُ أقرأُ من أجله وأشاهدُ كلَّ شيء عن عالم الذئاب، وعوالم الأوبرا، فقد كان طموحي منذ زمن طويل أن أكتب أوبرا شعرية. *

من المؤلم كثيرًا أن الخرافة يمكن أن تكون أقوى من الحقيقة في حالات كثيرة. صحيح أن الحقيقة يمكن أن تظهر في النهاية، ولكن علينا ألا نكون مطمئنين إلى أنها ستظهر لمجردِ أنها حقيقة، ونحن نتركُها وحيدةً تُصارع، فالحقّ، للأسف، لا ينتصر بقوّتِه الذّاتية. ولذا تغدو مهمّتك ككاتب الدفاعَ عن الحقيقة والمساعدةَ في الوصول إليها في أقصر مدّة ممكنة. ومن المفارقات: أن عدوَّنا لا يكفّ عن إنتاج أكاذيبه، ولذا لا نملك إلا إن نواصل قول حقيقتنا. من هنا ربما ولد مشروع (الملهاة الفلسطينية).

في روايتي (أعراس آمنة) تخاطب البطلةُ الشهيدَ غسان كنفاني قائلة: (أتعرف يا غسان مصيرُ الحكاياتِ التي لا نكتُبها؟ إنها تصبح مُلْكا لأعدائنا.) هذا ما أخافني، ولم يزل يخيفني.

لا كتابةَ حقيقيةً خارج معنى التاريخ. لأن الزمــان لا يمكن أن يكون في النهايـة مجــردَ وقـت. * الشيء الأساسي في تجربتي أنني شاعر وروائي، أما بقية الفنون التي أمارسها، فأمارسها من منطلق الرّغبة في معايشتها من الداخل، لأستطيع الإفادةَ منها في الشّعر وفي الرواية؛ وهكذا، ظهر أثر السينما واللوحةِ والصورةِ الفوتوغرافيةِ بوضوح داخل تجربتي الأدبية؛ وأظن أنه عززها وأصبح جزءًا أصيلا منها؛ والكتابات النقدية، عن السينما بشكل خاص، أعتبرها بمثابة سيرةٍ ثقافيةٍ لي، لأفكاري. قناعتي التي أؤمن بها منذ زمن طويل: إن الذي لا يستطيع أن يُقدِّم مساهماتٍ جديدةً على المستوى الفني، لا يستطيع أن يقدِّم مساهماتٍ على مستوى الخطاب الأدبي، لأن الجمال مضمون أيضاً. كما أنني أرى أن ليس هناك قضايا كبيرة جادة، وقضايا صغيرة غير جادة، في الأدب، بل هناك أدب كبير، وأدب غيرُ كبير: كتب تولستوي عن الحرب والسلام، وكتب باتريك زوسكيند عن العطر، وكتب دينو بوتزاتي عن قطرة ماء تصعد الدرج، ولكنهم كتبوا أدبًا عظيمًا

إذا نظرنا إلى النّمر باعتباره حيوانا جادًا.. فكيف يمكن أن ننظر إلى الفراشةِ أو العصفور؟! * ليس ثمة كتابةٌ خارج تجاربنا، وتجاربِ الآخرين ومعايشتنا لهم. لقد وصلتُ، بعد ثلاثين عامًا في الوظائف، إلى اللحظة التي أكون فيها متفرّغًا للكتابة، لكن المهنة كان لها دورٌ كبير في كتابتي، فقد اكتشفتُ أن الصحافةَ كان لها دوْر أساسي في كتابة ثلاثة أعمال روائية، هي: عَوْ، حارس المدينة الضائعة، شرفة رجل الثلج. وإلى حدّ كبير رواية زيتون الشوارع، كما أن السفر أسهم في كتابة أعمال أخرى، لولاه ما كانت، وهي: براري الحُمّى، الأمواج البريّة، فضيحة الثعلب، مجرد 2 فقط، السيرة الطائرة، أرواح كليمنجارو. *

أكتب عما يلامس قلبي ويستفزُّ عقلي، أكتب تلك المواضيع التي تسكُنُني. أما وصية نفسي لنفسيَ دائما: فهي: اكتب بكلَّ قلبك، لكي يقرأك القارئُ بكل قلبه، وإذا ما كتبتَ بنصف قلبِكَ فلن يقرأك أحد.

أما الدّرسُ الأساسي الذي تعلمته فهو: من لا يستطيع أن يتعلَّم، لا يستطيع أن يُعلِّم، فكلُّ إنسان تقابله، مهما اختلف مستواه العلمي، يمكن أن يُعلِّمكَ شيئا، لأنه، دائما، يعرفُ شيئًا أنت لا تعرفه. فاصل: أُنقِّبُ في داخلي لأعثر عليّ.. أنقِّبُ في داخلكَ لأُكملّ الصـورة لقد حاولت الإصغاء بالشِّعر حينًا وبالرواية حينًا، وبالرَّسم حينًا، وبالتصوير حينًا، وكتابة الأغنيات حينًا وبنقد السينما حينًا، وحاولت التنوع داخل تجربتي ما استطعت، وكان الشكلُ الفني متعتي الخاصةَ والاكتشافَ الذي يبهجني مثل أي اكتشافٍ آخر وأنا أتجوّل في تلك القارة السابعة الواسعة، التي نسميها الإنسان. كتبت الرواية متوسطة الطول، ثم الطويلةَ بطموحها الملحمي، القصيرةَ، السيريَّة، مثلما كتبتُ الروايةَ النفسيةَ، الاجتماعيةَ، السياسيةَ، التاريخيةَ، الغرائبيةَ، والمستقبليةَ أيضّا.

كتبت “الملهاة الفلسطينية” لأتأمل فلسطينَ وتاريخَها وجمالها فغطت الملهاة ما يقرب من مائتين وخمسين عاما، وكتبت مشروع “الشرفات” وجها آخر للحكاية الفلسطينية، لأتأمل واقعا عربيا شديد الارتباك، لكنني لا أجرؤ على أن أطلق علية “المأساة العربية” فمن الصعب أن تكون على قيد الأمل في حيفا والقدس ورهين اليأس في عمّان أو القاهرة أو بغداد. فاصل أخير: بينما كنا نتشرّبُ حكايات الأمهات والجدات التي كُنَّ يقُدْننا فيها، وبها، نحو النوم نستعيدُ هذه الحكايات في الكتابة، في محاولةٍ منا لإيقاظ العالم! أما إيمان زياد فتقول في شهادتها حول تحولات الرواية الفلسطينية السجن لا يُبنى على أحد المعتقل والأدب سلام الله على الحاضرين والغائبين المزروعين في وجداننا، في البدء الشكر الجزيل لبيت الرواية ووزارة الثقافة التونسية على احتضانهم لهذا الملتقى وتشريف الرواية الفلسطينية لتكون عنوانا للبحث وتقديم الرؤى والآراء حول تحولاتها وتطورها.

أجمل ما يميز هذه التظاهرة أنها بمثابة يد تُمد من خلف جدران المعتقل لتحرر الأسرى من عزلتهم حين تخصص مساحة في برامجها لتضيء على جزء من إبداعات بعض الأسرى الروائية، لذلك سنظل نخرج من باطن الأرض أو نحلق كدوري حر يجتاز البوابات في عوالم موازية لا سلطان عليها إلا مخيلة الأسير وإرادته، فشكرا لكم قبل أن أبدأ مداخلتي أنقل لكم تحية الأسرى الذين سيتم التطرق لتجاربهم خلال هذه التظاهرة: الأسير وليد دقة والأسير كميل أبوحنيش وآخرون نتطرق لتجاربهم خلال المناقشة.

السجن كما عرفه ميشيل فوكو أداة للمراقبة والعقاب تم تطبيقه والتأكد من نجاعته في تجارب عدة، لكن توظيفه في صراعنا كفلسطينيين مع الاحتلال الصهيوني يؤتى بمنظور مختلف. فقد حدد له الاحتلال أهدافا أخرى؛ لا تتمثل باستخدامه كأداة لإصلاح سلوك السجين أو الأسير المجتمعي، إنما باعتباره أداة ومنظومة شاملة وممنهجة تهدف إلى كسر إرادة قاطن السجن وذلك بممارسة كافة أشكال القيود عليه؛ كقيد الوقت، وقيد إدارة الوقت بجعله قالبا محددا يتحرك الأسير بداخله، قيد الطعام والشراب بتحديد مكونات وحجم وجودة ذلك، بمستوى يجعل منه محطة نضال للأسير ليحصل على حد أدنى من الجودة، قيد اللاحرية في القيد ذاته باقتحام خصوصية الأسرى وتفتيش حاجاتهم في أي وقت، قيد الإهمال الصحي والتواصل مع العالم الخارجي وألوان جدران المعتقل الرمادية، وقيد الفكر فممنوع أن يُعمل الأسير عقله في أي شيء عدا عتمة الزنازين وأفق العمر الذي لا يراه، وغيرها من القيود التي بالطبع يسبقها التعذيب الجسدي والنفسي من لحظة الاعتقال إلى التحقيق ثمّ التنقل إلى المحاكمات بالبوسطة أو للانتقال بين السجون وتعرض الأسرى للتهديد هو وعائلته.

كل هذا وغيره يجعل من الأسير مجبرا على مهمة قتل الوقت الذي يصبح عدوا حين تصبح المعايشة اليومية للقسوة والقهر سمة للمكان. الأمر هنا يفوق بالطبع فكرة الملل من الزمن البطيء والعنيد، تصير الفكرة أن ثمة حياة يمكن أن يحياها الأسير خارج إطار الموت الذي هندسه الاحتلال الصهيوني ليُنجح فكرة أن السجن عقاب. كان نتاج منظومة القمع والإرهاب التي تحيط الأسير، أن حوّلها الأسير صاحب القضية والأرض إلى دافع لأن ينطلق يدوّن إبداع دواخله، ليبني شكلا أو نموذجا حديثا من التحدي ليقول به كم هو يتشبث بالحياة، وكم هو تواق للحرية، التي أصبح شكلها غير مندرج ضمن المألوف والعادي، لتمتلك كتاباته أجنحة تجتاز كل قيد، لأن ما من قيد يألفه عقل الحرّ ويرضاه.

لم يأت هذا الإبداع الأدبي بغض النظر عن جنسه، سواء كان شعرا أم نثرا أم قصة أو رواية أو نصا مسرحيا أو أي جنس أدبي آخر، تنفيسًا عن اختناق أو تصويرًا للحظات بطولة أو لحظة متخيلة؛ لكنه كان يقول إنسانية راويه، روحه وقناعاته ونضاله الماضي والمستقبل. تمتد جذور النتاجات الإبداعية التي تخلقت خلف القضبان، في تاريخنا الفلسطيني، وفي التاريخ العربي والعالمي؛ فثمة أسماء عديدة كتبت الشعر والنثر والقصة والرواية وأصحابها يقبعون في الزنازين، أو كتبوا عن تجاربهم عقب تحررهم. في الحالة الفلسطينية، نجد أن إصدارات الأسرى امتازت عن سواها من النتاجات العربية والعالمية، بأنها الأغنى والأكثر شمولية وزخمًا من حيث الكم والكيف بين تجارب الشعوب وحركات التحرر؛ وما يُبرر ذلك طبيعة الاحتلال الصهيوني طويل الأمد في فلسطين، والأطول عبر التاريخ. أول كتاب فلسطيني وُضع في أدب المعتقلات هو للكاتب “خليل بيدس” بعنوان “أدب السجون” أثناء فترة اعتقاله في سجون سلطات الانتداب البريطانية الذي اختفى منذ النكبة.

قد يكون المرء غير مبالغ إذا قال إن غالبية الشعب الفلسطيني تعرضت أُسره على امتداد مساحة الوطن المحتل لاعتقال أحد أفراده. “إن المعتقل الفلسطيني بفكره ومحتواه الثوري والنضالي، يشكل هدفًا أساسيًا للاحتلال” الصهيوني ” والذي كرّس كل أساليبه لتشويش فكره ووعيه، وتشويه سلوكه وأفعاله النضالية؛ من أجل جعله في حالة شك ذاتي؛ لإحباط توجهاته وتفكيك قدراته الكفاحية والثورية؛ بهدف ترويض وتحطيم إرادته وصموده”. إحدى الأساليب؛ سياسة الإفراغ الفكري والثقافي، والتي تهدف إلى زرع ثقافة مشوّهة بديلة، تعمل على صياغة نفسية المعتقل من جديد

وتطويعه وفق إرادتها؛ ولذلك قامت سلطات الاحتلال بإعلان الحظر التام على الثقافة الوطنية والإنسانية؛ بل على كل وسيلة ثقافية؛ حتى الورقة والقلم والكتاب؛ فقد كان الاحتلال يعتبر أن امتلاك ورقة وقلمًا من الأمور المرتبطة بالحضارة والرقي؛ فكان لابد للمعتقلين من إيجاد وسيلة للتغلب على مشكلة الورقة والقلم؛ فعملوا على تهريب أدوات الكتابة من خلال زيارات الأهل؛ أو عن طريق المحامين؛ كما استفادوا من لأقلام التي كانت توزع عليهم لكي يكتبوا رسائل لذويهم مرة في الشهر؛ وكان لا بد من إخفاء إحدى الأقلام وتحمّل تبعات ذلك من عقاب جماعي، ومن ثم استخدموا القلم في كتابة ما يريدون؛ وبنفس الطريقة تمكنوا من توفير الورق. كما استخدم المعتقلون مغلفات اللبنة والزبدة بعد غسلها وتجفيفها للكتابة عليها. واستمرت سياسة الحصار الثقافي والفكري من عام 1967 وحتى عام 70 فخاض الأسرى غمار عدة ميادين كالاحتجاج المباشر، والإضراب عن الطعام، والاتصال بالصليب الأحمر الدولي؛ الأمر الذي جعل إدارة السجون ترضخ في النهاية لمطالبهم، خصوصًا بعد الإضراب الكبير الذي عمّ المعتقلات عام 1970؛ فقد اضطر الاحتلال إلى السماح بإدخال الكتب والصحف والدفاتر والأقلام من خلال الصليب الأحمر؛ إلا أنه وضع قيودًا على ذلك تمثلت في: إخضاع المواد المكتوبة للرقابة والتدقيق والفحص الأمني، وتحديد نوعية الكتب المسموح بإدخالها، وتحديد كمية الأقلام والورق؛ وأخيرا فرضت على كل معتقل أن لا يقتني أكثر من كتاب واحد؛ وفي حالات كثيرة كانت تقوم سلطات السجون باقتحام غرف المعتقلين ومصادرة الكتب والدفاتر والأقلام كعقاب لهم.

التجربة الإبداعية هذه مرت بعدة مراحل جعلت من صقلها وتطورها أمرا أكيدا. حتّى تمكّن المعتقلون فترة الثمانينيات من تهريب نتاجاتهم الإبداعية إلى خارج المعتقل؛ واهتمت الصحف والمجلات المحلية بنشر إنتاجهم؛ ما شجعهم على مواصلة الكتابة وتطويرها. ومن الصحف والمجلات التي نشرت أعمالهم الإبداعية: البيادر الأدبي، والشراع، والكاتب، والفجر الأدبي، وعبير. كما عملت دور النشر والمؤسسات الثقافية والحزبية على نشر إبداعات المعتقلين في كتب مثل: اتحاد الكتاب، ودار القسطل للنشر، ودار الأدباء والبنون للنشر، ودار الزهراء، ومركز التراث في الطيبة، وغيرها. كل هذا ساهم في تطور التجربة الإبداعية لدى المعتقلين؛ بالإضافة إلى نضوج الحالة الثقافية الناتجة عن المسيرة التثقيفية الطويلة والشاقة التي خاضها المعتقلون مع أنفسهم؛ في سبيل إبراز ذواتهم للخروج من حالة العزلة التي يسعى الاحتلال إلى تكريس فرضها عليهم؛ لهذا ارتقى وتطوّر إبداع المعتقلين، من الشعر إلى الخاطرة إلى القصة القصيرة، إلى النص المسرحي الذي كان يمثل في المناسبات الوطنية داخل المعتقلات، وقد صدرت النصوص المسرحية لاحقا. أما الروايات كانت في أغلبها روايات تسجيلية تحكي واقع المعتقل وظروفه المعيشية، وممارسات السجان تجاه المعتقلين.

ومن الأعمال الأدبية الإبداعية التي نشرت في هذه الفترة: ورواية “زنزانة رقم 7” لفاضل يونس (1983). بعد الانتفاضة: شهدت هذه المرحلة تنوعًا في إبداعات المعتقلين وتطورًا كميًا في النتاجات الإبداعية؛ وقد تحول الأدب من ممارسة هواية وثقافة جمالية، إلى مشاركة نضالية في أحداث الانتفاضة وزخمها الثوري. شهدت هذه الفترة زيادة ملموسة في عدد الكتب التي صدرت للمبدعين المعتقلين؛ وأولت دور النشر والمؤسسات الثقافية والمجلات والصحف عناية خاصة بأدب المعتقلات. من الكتابات التي نشرت في هذه الفترة رواية “تحت السياط” لفاضل يونس (1988)، ورواية “شمس الأرض” لعلي جرادات (1989)، ورواية “رحلة في شعاب الجمجمة” لعادل عمر (1990)، ورواية “شمس في ليل النقب” لهشام عبد الرازق (1991)، ورواية “قهر المستحيل” لعبد الحق شحادة (1992). مرت التجربة الأدبية في المعتقلات الصهيونية بعدة أحداث تمخض عنها تحول في المحتوى والتقنيات انعكست على النتاج الأدبي وتطور بالتوازي طرق تهريب هذه الإنتاجات عبر الكبسولة وغيرها لتتحرر النتاجات الأدبية وتسكن في الكتب.

ثمة كتابات كتبت داخل المعتقل وهربت إلى الخارج ونشرت مثل: روايتي ظل الغيمة السوداء، وعلى جناح الدم (2006) لشعبان حسونة، اللتين كتبهما في المعتقل الذي يقضي فيه حكما مدى الحياة. ومسك لكفاية وسيرة سيدة الظلال ونرجس العزلة لباسم خندقجي. ” السجن لا يبنى على أحد ” هذه المقولة التي عبر بها الأسرى دوما حملتهم إلى التفاؤل بالحرية والعودة للحياة مستندين إلى تجارب زملائهم الماضية ممن حوكموا بالمؤبدات لمدى الحياة وتم الإفراج عنهم خلال عمليات تبادل للأسرى، من هذا المنطلق المحب للحياة والمتطلع للأمل، استعد الأسرى لما بعد الحرية.

بينما يقول محمود شقير في شهادته فلسطين في الكتابة الروائية منذ ابتدأت كتابة القصة في العام 1962 لم يغادرني التوقُ إلى كتابة الرواية.

ويبدو أن هذا التوقَ تجسّد في كتابة سبع روايات للفتيات والفتيان وثلاث روايات للكبار؛ كما انعكس على أسلوب كتابتي للقصة القصيرة جدًّا، بحيث أنجزتُ كتبًا قصصية فيها سياقات روائيّة استوحيتُ مضامينَها من المجتمع الذي أعيش فيه.

أعيش في مجتمع فلسطيني مبتلى بالاحتلال الإسرائيلي، الذي ما زال جاثمًا على صدور الناس منذ سنوات طويلة، وما زال في الوقت ذاته يجمّد فرصَ التطور الطبيعي لهذا المجتمع، بحيث راح الناس هنا يعيدون للعائلة الممتدة وللعشيرة هيمنتهُما على المنتمين لهما من رجال ونساء، للاحتماء بهما من عسف الاحتلال ومن انعدام الأمن والأمان، ما يعني تعزيزَ سطوة المحافظة، وحضورَ الأعراف والتقاليد على نحو مبالغ فيه، وتقييدَ حرّيّة النساء، وشخصنةَ الأمور على النحو الذي يجعل حركة الروائي في هذا المجتمع محكومةً باعتبارات كثيرة وبمحاذير

. مع ذلك، لم أعدم فيما كتبتُ اللجوء إلى أساليبَ فنّيّةٍ وتقنياتٍ مكّنتني من تحدّي التقاليدِ والأعراف البالية، ومن الترويج للقيم والتطلّعات العصريّة التي تنتصر للإنسان، وتؤكّد أن حياة الفلسطيني لن تستقيم على نحو صحيح إلا بالتخلّص من الاحتلال، للظفر بحياة كريمة تتوافر فيها قيم الحرية والعدل والديمقراطية والأمن والطمأنينة والسلام.

أنتمي إلى عشيرة بدويّة ما زالت تتداخل في حياتها اليوميّة أنماطُ العيشِ البدويّةُ والفلاحيّةُ والمدنيّة. ولعلّ جذوري البدويّةَ هذه هي التي ألهمتني ما يمكن أن أرويه عبر الكتابة، وما أرويه يستمدّ نسغَه من معايشتي لما تعانيه عشيرتي وغيرُها من العشائر البدويّة الفلسطينيّة، من قلق الانتقال من طور حضاري إلى طور حضاري آخر، ومن الصراع الناشئ عن ذلك على صعيد الفرد وعلى صعيد الجماعة، وهو قلقٌ يتمحور أساسًا حول ثيمتين لهما علاقة بالوطن وبالمجتمع، وأعني بهما حمايةَ الأرض والمرأة، مع ما تشتمل عليه مقولةُ حماية المرأةِ من مفاهيمَ بعضُها صحيح وبعضها الآخر يتناقض مع منطق العصر واحترامِ إنسانية المرأة وحقِّها المشروعِ في حياة حرّة كريمة، في حينِ تظلّ مقولةُ حمايةِ الأرض مقترنةً بالمفهوم الصحيح الذي يعني الدفاعَ عن الوطن ضدّ أيّ احتلال أو عدوان.

ولربما كان هذا سببًا من الأسباب التي حفّزتني على كتابة ثلاث روايات عن عائلة العبد اللات البدويّة، وعن مكان فسيح سكنته العائلة اسمه: البرّيّة؛ برّيّةُ مدينة القدس.

ما كتبته في “فرس العائلة” وفي “مديح لنساء العائلة” يغطي فترةً من حياة الشعب الفلسطيني تمتد من بدايات القرن العشرين حتى أوائل الثمانينيات حين خرجت المقاومة الفلسطينية من بيروت في العام 1982، وفي رواية “ظلال العائلة”، تطرّقتُ إلى الفترة الزمنية من ثمانينيّات القرن العشرين إلى ما قبل أربع سنوات من وقتنا الراهن، وقتِ التحوّلات الاجتماعيّة والسياسيّة وما شابها من بؤس وخراب، ومن آمال وتطلعات. ولعلّ المشكلة التي سعيت إلى تذليلها قبل الشروع في كتابة “مديح لنساء العائلة”، هي البحثُ عن أسلوب السرد المناسب الذي يمكن تفريغُ التجربة من خلاله؛ أقصد تجربةَ عائلة العبداللات التي أخذها الشتات إلى بقاع شتى بعد الكارثة الفلسطينية في العام 1948.

وكان هناك بطبيعة الحال إغراءُ المادّة التاريخيّة التي لا بدّ من التعاطي معها ما دمتُ أتابعُ التطوّراتِ التي طالت العائلةَ المذكورةَ في ظرفٍ تاريخي محدّد. وكان يتعين عليّ في الوقت ذاته أن أحذر من الوقوع في أسر التاريخ أو في شرك الرصد الفوتوغرافي لجزئيّاتِ واقعٍ مضى وما زال أثره باقيًا في الوجدان وفي حياة الناس. لذلك اعتمدتُ السردَ بضمير المتكلم، بحيث تتولّى الشخصياتُ الرئيسةُ في الرواية التحدّثَ عن نفسها وعن الآخرين، وبحيث تقوم ببلورة الأحداث من وجهات نظرها.

كما اعتمدتُ أسلوبَ الرسائل التقليديّة الذي اضطلع به أحدُ أبناء العائلة، تعبيرًا عن حياته في المهجر، واستجابةً منه لما يعانيه أبناءُ عائلته في الوطن. وأظنّ أن ثمة مبررًا لاعتماد السرد بضمير المتكلم بسبب تشظّي العائلة وظهورِ شخصيّة الفرد الذي لم يعد مستعدًا للانصياع لرغبة كبير العائلة كما كانت الحال في السابق. أدّعي أنّني استطعت من خلال ذلك السيطرةَ على مادة كثيفة تتباين فيها الأمكنة، ويشتبك فيها الخاصّ مع العام، وتتوزّع فيها الأحداثُ على امتداد أربعين عامًا، هي الفترة التي عايشتْها عائلةُ العبد اللات، وتعايشَ معها أبناؤها وبناتُها، وقد جرّبوا حلاوةَ العيش حينًا، ومرارتَه في أغلب الأحيان.

وقد أسهمت كتاباتي القصصيّةُ في تشكيل أدواتي السردية لكتابة الرواية، حتى إن نقّادًا أشاروا إلى أن روايتي الأولى “فرسَ العائلة” تنبني فصولها ومشاهدها من وحدات قصصيّة تتوالى وتتكامل على هيئة سرد روائي، فيه استفادةٌ من الجملة المتحرّرة من الزخارف اللغوية، وفيه كذلك استفادة من السخرية التي ظهرت في روايتي “مديح لنساء العائلة” وكنت كرّستها، أي السخرية، في مجموعتين قصصيّتين هما “صورة شاكيرا” و “ابنة خالتي كوندوليزا”. وسبق لي أن كرّستُ كتبًا قصصيّة متّصلًا بعضُها ببعض، وفي الوقت ذاته منفصلٌ بعضُها عن بعض، حيث بالإمكان قراءةُ كلِّ قصةٍ على حدة، وبالإمكان قراءتُها في ترابطها كما لو أنها رواية؛ أقصد هنا كتبي القصصية: “احتمالات طفيفة”، و”القدس وحدها هناك”، و”سقوفَ الرغبة”؛ و “حليبَ الضحى” الذي يبدأ من حيث انتهت روايتي الثالثة “ظلال العائلة”، ويظهر السياق الروائي في هذا الكتاب بوضوح لا لبس فيه. كنت معنيًّا، وأنا أكتب رواياتي الثلاث، بتسليط الضوء على حياة البدو واشتباكهم مع الحداثة ومع الغزاة في آن واحد.

وضمن هذا السياق كانت المحافظةُ على ذاكرة المكان وما تشتمل عليه من ميثولوجيا شعبية ومأثورات، ومن بطولات وتضحيات واحدةً من ركائز هذه الروايات، باعتبار ذلك حمايةً للمكان من التهويد، وللهويّة الفلسطينيّة من محاولات التبديد، تلك المحاولات التي لم تحقّق نجاحًا بسبب تمسّك الفلسطينيّين بأرضهم، وبانتمائهم لوطنهم،

بحيث ظلّت الهويّةُ عصيّةً على كلّ المحاولات. بل إنّها ازدادت غنىً بالنظر إلى انفتاحها على ثقافات الشعوب من دون تعصّب أو انغلاق؛ وقد أسهم الأدب الفلسطيني ومن ضمنه الروايةُ بشكلٍ خاصّ في حفظ هويّة المكان الفلسطيني برغم ما يتهدّده من أخطار.

ولأنّ القضيّة الفلسطينيّة تتأثّر إيجابًا وسلبًا بكلّ ما يحدث في الوطن العربي من تطوّرات، وحيث إنّ ما يجري الآن في بعض أقطار هذا الوطن الكبير يغطّي، بما يتّسم به من قسوة، على ما يرتكبه جيش المحتلّين الإسرائيليّين من جرائمَ ضدّ الشعب الفلسطيني في غزّةَ وفي ما وراءِ الخطِّ الأخضرِ وغيرهِما من أمكنة، ويغطّي كذلك على إجراءات تهويد القدس وابتلاعِ مساحاتٍ واسعةٍ من أراضي الضفّةِ الفلسطينيّةِ المحتلّة، فإنّ مهمّةَ الروائي الفلسطيني تصبحُ أكثرَ اشتباكًا مع معضلاتِ الوضع العربي وتأثيرِها المباشرِ وغيرِ المباشر على الوضع الفلسطيني. وهذا يعني أنّ ثمّة ضرورةً لكتاباتٍ إبداعيّةٍ متميزة يعي مبدعوها أهمّيّةَ الدفاعِ عن القيم التي تحترم إنسانيّة الإنسان، وتُعلي من شأن الديمقراطيّة والتعدّدية والمواطنةِ، وترفضُ التطرّف والإقصاء، وتعزّز في الوقت ذاته بقاءَ الشعب الفلسطيني صامدًا فوق أرضه، مستعدًّا للتضحية والبذل والعطاء من أجل انتزاع حقّه في الحرية وتقرير المصير والاستقلال.

وفي النهاية تقول الروائية ثورة حوامدة رواية بنت من شاتيلا نموذجا سردية الموت بين الكاتب والمكتوب في الرواية الفلسطينية. يمكن باختصار شديد أن نعتبر رواية أكرم مسلم “بنت من شاتيلا” من بين الروايات القلائل التي تعطي للموت هيئة بشرية من لحم ودم، ويقدمه لنا في الرواية دون سبق إصرار على أنه شخصية حقيقية ضمن شخوص العمل، والأهم هنا أن يكون الرواي قد اقترب من إعطاء الموت دورا جديدا في سياق المتن الحكائي ألا وهو دور الرواي والسارد. ليخرج لنا السؤال الهام على موقف الموت “الشخصية السردية” من الموت “الشيء المجهول”.

 بما أن كلمة الحياة كلما كتبت فإنها تقال دفعة واحدة عن كل الأشياء، لكن الموت يغاير هذه الفكرة ويجعلنا ننطقها على دفعات عن كل الأشياء، بتراتبية ملفتة. وهذا ما ينعكس على السرد الروائي داخل العمل، نجد أن الحواس تتعطل في ملاحظة حياة الأشياء المحيطة، وكأنها تتهاوى من ارتفاع عال، إلى قاع سحيق لا نهاية له سقوطا مستمرا.

 وباستطاعتنا هنا أن نسقط رواية سارماجوا “انقطاعات الموت” على الواقع السردي الفلسطيني، وأن نتساءل عن ماهية الموت، وهل يطال الجسد فقط، أم يجتث ما تتركه الحياة على هامشها ومركزها لحظة واحدة، في بعدها النفسي الإنساني. المشهد الأول في الرواية يبدأ بالتقاط المصور صورة للموت، جثث مكدسة في فناء منزل في مخيم شاتيلا. ما يظهره لنا هذا المشهد ضمن المبنى الحكائي، أن الموت في حالة السلم يختلف في شكله والتقاطاته عن الموت في لحظات الحروب.

في حالة الموت الطبيعي تجد الميت محاطا بالباكيين، لكن في حالة الحرب وتكدس الجثث، حين تنام الأسرة كاملة إلى جانب بعضها البعض نومتها الأخيرة؛ فمن سيبكيها؟ الغرائبية الواقعية في ذات المشهد حين يلتقط المصور صورة للحياة والموت معا، صورة العائلة الأشلاء والناجية الوحيدة بينهم، والتي ستجعل سيميائية اللحظة ظاهرة. وستكون هذه الالتقاطة دليلا عن هيمنة الموت على كامل المشهد تاركا للفتاة الناجية مهمة التضاد المادي. المدهش في تلك اللحظة قدرة المصور على التقاط صورة لرائحة الموت، ستبقى ثابتة في كل لحظة تمسك فيها الطفلة صورة العائلة.

وستتطور تلك الرائحة في مخيلة الطفلة لتكون ندا، هذا الموت الذي سيكون عدوا تدركه الحواس، والمواجهة معه ليست إلا انتصار لحياة واستمرار الرواية الفلسطينية من المحو وليس لأجل الأجساد. صوت الطفلة اسكت بفعل فاعل، الموت نفسه أسكتها عن العويل والصراخ والبكاء، ليشهد السرد هنا على موت الصوت. يحضر في الأذهان جيدا، مشهد النهاية في رواية غسان كنفاني “رجال في الشمس” حينما استكان مروان وأسعد وأبو قيس لموت الصوت الحي داخلهم. الثيمة الرئيسية في الرواية هو الهروب من الموت لأجل الحياة، لكن الموت كان كذبة الجغرافيا، فمات الأبطال في خزان الماء المتهالك دون صوت. القسم الأول من الرواية الصادرة عن الدار الأهلية يضعنا أمام مشهد أصم للموت، تموت السيدة الألمانية على المقعد المقابل للتلفاز، ويتابع الموت نشرة الأخبار بدلا عنها. هذا المشهد يقابله على النافدة المجاورة الفتاة الناجية من المجزرة، التي كبرت وأصبحت الوثيقة الوحيدة الحية على وجود العائلة المفقودة.

 الموت في الرواية لم يكن أكثر من شخصية تتحرك وفقها أقدار الشخصيات أينما تلفتت. وأن الناجية الوحيدة يوما ما كانت تبصر الموت كما تبصره الآن في ألمانيا، تماما مثلما كان يبصرها في كل محطة عمرية. على ضفاف النهر، تلتقي الفتاة الناجية من المجزرة، بشاب فلسطيني من رام الله قادم في زيارة تبادل ثقافي. يكمن السبب وراء سهولة الحديث والتعارف هو أن الموت يجمعهما

. ثمة علاقة غير مباشرة بين مجزرة شاتيلا في لبنان وهامبورغ في ألمانيا. الموت له رائحة تتداعى وتحضر بشكل سحري، يُمنح الشخص المطلوب بموجبها مساحة كافية للتذكر. ما يؤكد أنه لا يتذكر الموت إلا الأموات الأحياء في جزء ما من حياتهم. عودة على “حورية” الناجية من المجزرة، وجدت حية بين جثث سبعة أطفال وأمها الحامل، اعتبرت في مرحلة ما أن حياتها لم تكن أكثر من “موديل مجزرة”.

عودة السرد الروائي في العمل للحديث من جديد بعد اعتماد تقنية القطع، هو لدلالة هامة_ خاصة بعد سنوات كثيرة من الابتعاد عن المكان_ ليس حالة للربط بين زمنين، بل استمرارا للفعل نفسه في كلا الزمنين. شخصية الخالة في العمل محورية في اتجاهين، أولهما الدور الإعلامي للحديث باستمرار عما حدث لعائلة أختها وتهويل الفاجعة بالرغم من مرارتها، والبحث عن حياة كريمة لحورية من خلال المنظمات الإنسانية التي زارت المخيم مرارا. الخالة ذاتها استغلت حادثة الموت، وتطاولت على سلطته، لتصنع له هيئة وشكلا آخرا. أخفت عن الصحافة في حديثها نجاة أخ حورية من المجزرة، وتركتها في مواجهة الموت وحدها، موت الحكاية المفتعل، وليس الفعلي. ظهور الأخ كان تغييرا سرديا ضمن المتن الحكائي، وتتوازي مع ضرورة أن يغير الموت سرديته الخاصة، ليدافع عن نفسه، ولكيلا يجد نفسه مبتليا بأكثر مما ارتكب، وليرسم خطوطا أبعد للفقد والخسارة، منتصرا زيفا على تقليدية المحكي أو المعيش في رواية الثكالى الفلسطينيين في المخيمات.

حورية التي تعمل في فرقة للعروض الفرجوية، دورها المتمثل في “رجل جمل” ضمن المجموعة، لم تكن بعيدة في المسمى الوظيفي والدها الملقب بالجمل، لصبره وجلده في المعارك التي شارك فيها. نتائج هذا الغياب عن العائلة لشهور طويلة أفقده معنى كلمة عائلة. ليتسلل الموت كشخصية شفافة حينما يتركك مثله بلا توصيف، بلا هوية، بلا تاريخ، بلا كينونة

. تعيد ألمانيا تجميع الأشلاء الحية، لقاء يجمع بين الأب وحورية، هذا الفدائي الناجي من الموت مرارا. إذ خلال مسيرته الفدائية قدم له الموت صورا مختلفة عنه، أقصد هنا الموت نفسه وليس الأب. الاختلاف يكمن في أن السلاح مثلا ليس إلا خديعة للقصاص من الأعضاء البشرية، وفي ربط مباشر تتعدد السيناريوهات المرفقة والمكتوبة حول الحدث نفسه، في المحصلة نجد الموت يقدم نفسه كنتيجة، مثلما نرويه في ختام الحكايات الحزينة، وليس بصفته الفاعل. تتسلل شخصية “زوج الخالة” إلى جوهر القصة، الغائب مند سنوات طويلة،

تتسلل شخصية “زوج الخالة” إلى جوهر القصة، الغائب منذ سنوات طويلة، تطرح تساؤلا أين كان بعد المجزرة، وتحديدا قبل المجزرة نفسها. هنا يمكن القول؛ إن الموت لا يعود بصورة مألوفة إلى الفكرة التي تقدم الشتات الفلسطيني نفسه خارج حدود جغرافيا الوطن المحتل. وإنما يعود من حيث لا يتوقع أحد، من الموت نفسه يعود الميت إلى الحياة. الزوج الذي فقدت أخباره لسنوات طويلة كان معتقلا في السجون السورية، ثم أن فكرة غيابه واعتباره ميتا، دفعتها للزواج.

يخرج الموت مجددا ليقلب الطاولة على رأسها كمحرك حقيقي للأحداث. عودته الطبيعية من رحم الموت إلى قلب السرد تؤكد أن الأموات ليسوا من فارقوا الحياة بل من تشبثوا فيها إلى أقصاها فخدلهم تمسكهم. تغير الأمكنة في هذا العمل الروائي، تجاوزٌ لفكرة موت الجسد نفسه، فالموت مشاع حينما يكون الند بشريا، يتبعه حتى في هروبه منه، ولذلك لا بد من العودة إلى سبب موت السيدة الألمانية في بداية الرواية. يمكن أن نعطيها توصيفا مهما وهي سيدة من “سيدات الإعمار”. فقدت زوجها في خراب ألمانيا الكبير أثناء الحرب العالمية الثانية، وشاهدة على إعادة الحياة إليها بجهود النساء الألمانيات. وقصة حورية التي بدأت حياتها بمجزرة، ترسم خريطة جديدة لمصائر الموتى، يلتقي الأحياء فيها بالأحياء والموتى بالموتى. وباقتدار يحول الموت الضحايا حول العالم إلى أخوة، ويحول الأخوة إلى ضحايا. اللغة أيضا لها نصيبها من الموت. وهنا يتحول النص من مجرد قصة إلى محاورة لصور الموت في الذي يمكن الكتابة عنه.

 بشكل سلسل لتمهيد الفكرة يعطي والد حورية لها بعض الأوراق ودفترا، طالبا منها فتحه بعد أن تسمع بخبر وفاته. خانت الطلب واقتحمت خلوة السر المؤجل. يتمثل السر في مخطوط مكتوب بلغة غريبة، عجز عن فك طلاسمها عباقرة التشفير. السؤال الذي يمكن طرحه هنا؛ أليس الموت هنا حليف اللغة أيضا حين يتركها على شكل نص مجهول لا حياة فيه؟

وأن موت المعرفة هذا ربما حياة بصورة معاكسة للغة ذاتها؟

لأنها تجعلها عصية على أن تكون مقروءة فتنال حظها من موت القراء وليس موتها. ولربما لتأكيد أن الأكثر موتا للغة هو موت المترجم، حيث من المفترض منح المترجم عمرا مضاعفا وخلودا أبديا، فمهمته ليست أقل من وظيفة الإله، حينما يعيد الحياة إلى جسد لغوي ميت

. حال موت اللغة التي يقتلها المترجم بموته، هو حال اللغة التي تموت على أفواه الضحايا فتموت حكايتهم معهم. وهذا العالم المرتبك، حتى وإن تم التحدث إليه عن الكوارث الإنسانية عبر اللغة، فإنه أصم. وأن معركة الحياة في هذا العالم ليس ما يجب قوله، بل ضرورة القول دائما لكيلا تموت اللغة. نوع من التأكيد على استحقاق الضحايا فرصة الوقوف على مسرح الحياة الكبير لبوح قصتهم.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :