تالا2

تالا2

هند الزيادي

ركضت بكلّ ما تسمح لها قدماها المتورّمتان من قوّة.احسّت انه يتخبّط في احشائهاوانّه يصرخ بها أن اركضي يا تالا.بدا  القوم نياما ولن يتفطنوا إلى هروبها إلاّ اذا سألوا خادم الزاوية في اعلى الجبل حيث كانت تختبئ.

كان عليها ان تنزل سفح الجبل بحملها الذي يقصم ظهرها.كان عليها ان تركض وبطنها يسابقها.الشّوك ادمى قدميها لكنّها لم تكن تعيره اهتماما  والكلاب تلاحقها نابحة فلا يتفوّق على نباحها سوى وجيب قلبها ولهاثها المحموم.وجدت في طريقها أكمة فأختبات داخلها ولم تبال بالشوك يخزها في كل مكان.

كان وجيب قلبها يّسمع على بعد امتار منها، إنّه الرعب والخوف على ساكن فؤادها.لهثت وشرد ذهنها بعيد وكأنها لا تشعر بشيء ولا تعيش إلا في فلك ذكرياته.”لم تأكل الزّاد منذ عشاءها الأخير معه.أدناها منه واحاط كتفيها بيديه النورانيتين وخاطب كل من حضر عشاءه أن “هذه اختكم وامانتي عندكم”، كلوا عشاءكم وعند الصباح سأغادركم.لكن هذه ، وأشار إليّ ويده تحيط كتفي، هذه تحمل زرعي.احموها ، فابنها دموزي”

لكنّهم لم يحموه ولم يحموها.اخذوه صباحا وأجبروه على الصعود  حافيا الى النّاصرة والأرض شوك. وقدّموه قربانا لأرواح الأجداد التي سكنت مغارة النّساك.

“آدوناي آسن.عالجني وطبّب جراحي حين رماني هؤلاء بالطّوب.وسترني حين تمزّق ثوبي، وحماني منهم.كانت روحه العذبة تحيط بي فاشعر أنني في آمان…لن أنسى تلك النظرة ابدا حين نزلت على ركبتي لألثم قدميه الحبيبتين وامرّغ عليهما شعري فأمسح عنهما غبار الطريق والدم الزّكي، ذهب ليجلب لي الأعشاب التي لا تنبت إلا في مغارات في الجبل وعاد بقدميه مجروحتين وقد سال دمهما.ثمّ طبّب ما تبقّى من جروحي،ونقّيت بأصابعي هذه الشوك الذي استوطن قدميه وكنت امسح مكان كل شوكة بخصلة من شعري وأقبّله. ثم قال:” انزلي يا تالا، قد برئت الآن”.دمعت عيناي ، فمدّكفّا فيها كل أمان الدنيا ومسح على رأسي ولمّا رفعت عينيّ إلى وجهه الملائكي تبسّم لي.ولم أغادره منذ تلك البسمة.”

انتبهت فجأة على أصوات النباح تتعالى، لقد انتبهوا إلى هروبها وانطلقوا خلفها ، وهاهم قد اقتربوا من الأكمة.ويجب أن تواصل انحدارها جريا إذا أرادت أن تنجو منهم.لقد أرسلوا وراءها الرّعيان، وهم أشرس من يمسك بالطّرائد.

واصلت جريها وقد بدأها الألم وكانت تخشى آلام الولادة فوضعت يدها على بطنها البارز كأنها تمسك به وتمنعه من النزول في أرض تكرهها وتكرهه.

نزل الليل وهي تراوح بين الجري والإختباء  بين الأكمات إلى أن وصلت إلى واد ذي زرع فيه آب وأعناب، حامل بماء جار ليس ببارد ولا بدافئ، والليل ستّار…اقتربت من حافته، ثم شلحت عنها  رداءها المهترئ وازاحت عنه ما التصق به من دماء وشوك ثم نزلت ببطئ إلى حضن الوادي، غمرتها المياه وتلذّذ جسدها العاري المنتفخ بلطف الماء، فغسلت عنها كل تعبها واحسّت بانتعاش وبراحة تاخذها للنوم، فنامت على ظهرها ، وانعكس ضوء القمر على بطنها الكبير اللّامع، ركلها “دموزي”،كأنما أحسّ بنور القمر يحيط ببيته، ابتسمت بين دموعها.إنه يريد ان يخبرها أنه معها وأن “لا تخافي أمّاه” دموزي ابن آدوناي آسن.رفعت بكفّها الصغير حفنة من ماء الوادي ومرّرتها بلطف فوق بطنها المتكوّر ثمّ فعلت نفس الشّيء مع نهديها المنتفخين الذين تيبست حلمتاهما وآلمتاها ، إيذانا بقرب تدفّق اكسير الحياة منها ليغذّي الأمانة التي تركها حبيبها عندها قبل أن تمزّقه اسواطهم الحديدية اللّاذعة.

سالت دموعها بصمت وهي تتامّل النّور المنبعث من القمر.كان قمرا مغايرا .كأنّه ارتوى من نور آدوناي وعرف أنها تحتاجه لتؤنس وحدتهافسطع واغرق الوادي وحقول العنب المزروعة على ضفّتيه نورا وانعكس على الأوراق الخضراء الداكنة حولها حتى أحسّت أنها وسط بحر أمواجه الساكنة من زمرّد برّاق ، سحرتها اللحظة واحسّت بذلك الضوء يلامس بشرتها بحنان.لم تعرف ماذا حدث.عاودها نفس احساسها عندما لمست يد آسن كتفها العاري لتمسح جراحه.كأنما تجمعت رقّة العالم كله بين ذراعيه حين ضمّها إلى قلبه.أغمضت عيناها.كان القمر في تلك الليلة منيرا أيضا، وكانا معا تحت كرمة عنب عملاقة تتسلّق جدران الناصرة التي يسكنها” آدوناي آسن” لم تدر إن كانت غيبوبة الألم أم غيبوبة الأمان الذي أسكرها وهي بين ذراعيه أم غيبوبة العشبة التي وضعها على جراحها ليسكن ألمها.

أخذتها سنة من نوم.لكن ذهنها لم يغف.ولم تدر إن كان ماعاشته تلك الليلة حقيقيا أم كان من وحي خيالها المشتاق.

كانت غيبوبة لذيذة اقشعّر لها كلّ جسدها.ضوء القمر كان فوق بطنها لكنّها رفعت حوضها من الماء وفتحت له فخذيها تدريجيا”هاهو ذا النور يقترب من موضع عفّتي، انّه عيناه تنظران إليّ، ولا أشعر بالخجل أبدا، فكلّ شي وأنا معه يتحوّل إلى محبّة وعبادة.مدّ يده النوارانية وداعب بطني وبقيت كفّه هناك طويلا، ثم لثمها بشفتين وقعتا على أرضي العطشى كما غمامة حبلى، قبّل بطني ثم نزلت الشفتان الغيمتان إلى الأسفل ووضعتا هناك قبلات رقيقة صغيرة، وكان قلبي الصغير يدقّ فرحا متصاعدا  دمعت له عيناي.ثم صعدت شفتاه الى فمي ولم اتذوّق بعدهما شهدا ولا عرفت طعم العذوبة، كان ريقه طيّبا وكانت قبلاته تغمر وجهي وتذوّق دمعي وشرب منه كما شربت من شهد شفتيه .لم اعرف كيف انفرجت ركبتاي وارتفع حوضي يناديه أن ادخل إليّ فقد اشتقت أن اتّحد معك وأن تكون داخلي وأن أسكنك ناصرتي، اقتحمني النور آنذاك، وها أنا افتح لك حوضي أيها النور لتدخلني مجدّدا”…دخلها نور القمر واقشعرّ جسدها وأحسّت بمياه الوادي تتدفّق الى رحمها الخصب المفتوح وانتابتها رعشة الحب فتأوّهت ثم تأوّهت ثم تأوّهت إلى أن وصلت الى ذروة العشق والحبّ فصرخت بجنون وقوّة.وأيقنت لحظتها أنها كانت مع سيّدها وأن نور القمر كان قبسا من نوره هو الذي عاد ليلجها فتطمئنّ روحها أنه معها…

هدأت الرّعدة التي غمرتها واحسّت باسترخاء وزال الألم الذي كان يسكنها فانفجرت مقلتاها دمعاو حبّا واهتزّ جسدها المتكوّر شوقا هذه المرة ومعاناة من ألم الفقد والفراغ الذي يحيط بها عندما انتبهت من سنتها.جثمت عليها الوحدة كطائر اسود عملاق ففتحت عينيها ورأت القمر قد انسحب خلف سحب تكاثفت وهي نائمة ، وشعرت بقشعريرة برد مفاجأة تنتابها.ركلها “دموزي”، وسمعت نباح كلاب الرّعاة الذين يطاردونها فعرفت أنها غفلت، ولم تفهم إن كان ما عاشته وسط مياه الوادي حقيقة أو انه كان حلما نورانيا.تشوّش ذهنها لكنها خرجت مسرعة تئنّ من ثقل حملها وارتدت ثوبها الممزق الدّامي على عجل وخرجت ثم قطعت الوادي وقد حملت في طرف ثوبها بعضا من عناقيد العنب لتأكلها عندما تبلغ أرض التوت…هناك يقال إن النّاس طيبون ويمكنها أن تلتمس عندهم الأمان.تلطخت قدماها بالتراب والطين وتشقّقتا من الحجارة المسنونة التي كانت  مزروعة في تلك الأرض الجاحدة.وطال مسيرها وخفّت سرعتها كلما ابتعدت عنهم وتراجع صوت الكلاب.لا بدّ أنّ بلد التوت قريب جدا.قارب الفجر على الطلوع وهاهي ترى جمعا من النسوة نازلات وعلى رؤوسهن قلال فخّارية يربطنها بأوشحتهن الملونة ليملأنها.سمعت أن بلد التوت فيها عين عذبة يأتيها الناس من كل فجّ عميق ليشربوا منها ويأخذوا حاجاتهم.إسمها عين الزبدة.اسم غريب.ولكن فيه خصوبة وحلاوة.كحلاوة البنات المتحلّقات حول العين يتضاحكن ويرمين بعضهن البعض بالماء.كانت تراهنّ من مكمنها وتتمنىّ انصرافهن بقلالهن لتتمكن من غسل قدميها والشّرب.دموزي كان يركلها وكان يأخذ أوضاعا غريبة في بطنها فيتكوّر ويتثنّى فيؤلمها ما يفعله، وتضع يدها على النتوء البارز في بطنها فتشعر أنها راسه فيسكن برهة ثم يعود للتكّور.انشغلت عن ألمها بمراقبة الفتيات اللاهيات، ولم تنتبه إلى أن واحدة منهن دنت من ورائها واقتربت منها ، فالتفتت تالا مذعورة فوجدت الصبيّة تبتسم وتقدّم لها قطعة خبز طابون ساخنه،ذوّبت فيها زبدة فساحت ، يبدو أنها أحضرتها معها السّاعة.فاحت رائحة الخبز في أنفها وثار جوعها المتوحش، فالتهمتها واكلت معها بعضا من العنب الذي أحضرته معها من الوادي.ظلت الفتاة صامتة وهي تنتظر انتهاءها من الأكل ، ثم أشارت إلى بطنها المتكوّر وعينها تسأل، فصمتت تالا ووضعت يدها على جنينها تريد أن تحميه في حركة لا إرادية.

همّت بالهرب، فامسكتها يد البنت وقالت لها”إبقي مختبئة هنا، لن يمسّك سوء ما لم يرك أحد،وسآتيك كل يوم بزاد وماء وعنب”

مرّت أيام وكانت البنت تنزل الطريق إلى العين، كلّ فجر، بقلّتها ووشاحها الملون، فتعطي تالا ما خبّأته لها في ثنايا ثوبها ثم تملأ جرّتها وتعود أدراجها بعد ان تطمئن على صديقتها الجديدة التي لا تعرف  عنها شيئا باستثناء اسمها”تالا”.اسم غريب لا يطلقونه على البنات في بلد التوت.كانت متاكدة أنها سمعت هذا الإسم من قبل ، ولكنّ الذاكرة خانتها.ولم تكن في الحقيقة تهتم كثيرا لأن ذهنها مشغول بحال صاحبتها وبطنها الكبير، شارفت على الوضع وما من احد سيقدر على مساعدتهاإن لم تفعل هي، لذلك عزمت على استشارة العشّابة التي كانت تهتم بالنساء الحوامل في بلد التوت.

في اليوم الموالي،أعدّت لها طبقا ساخنا من البقدونس المخلوط بحبات دقيقة من العجين وسقته بمرق حارّ احمر حتى صار كحديقة غلب عليها اللون الأخضر ووضعته في اناء فخّاري غميق ليحتفظ بحرارته، ثم نزلت في نفس موعدها وهي تطنّ، وتلتقط حبّات التّوت الأسود التي تسلّقت نبات التين الشوكي والتفت حولها، فجمعت قدرا لا باس به ستحمله لصاحبتها وكانت غافلة عن العين التي تترصّدهاوتتبعها في صمت.عين ابن عمّها السرسري، يامن.راع من رعاة بلد التوت ويسافر كثيرا ويخالط بشرا من كل الأصناف ويبيع ويشتري محاصيل العنب والتين الشوكي واللوز.يصعد كثيرا للجبال المجاورة ويعود بجروح وندوب في كامل جسمه علامة عراكاته ومشاجراته مع اللصوص وقطّاع الطرق الذين يجالسهم ويقامر معهم.

تواصلت الملاحقة الصامتة إلى أن وصلت صبيّة الى عين الزبدة وبحثت في الأكمة عن صاحبتها الجديدة فقدّمت لها الطعام وبقيت تنظر إليها وهي تأكل ولا تتكلّم.صمتها والرعب في عينيها أكثر ما يثير فضولها.كانت تنظر الى وجهها الأبيض وتقاسيمها الدقيقة وتتأمّل جمالها ولكنها انتبهت الى نظرة الرعب في عيني تالا وهي تنظر إلى شيء ما وراء كتفها.التفتت مذعورة هي الأخرى وفوجدت يامن منتصبا امامها ينقل بصرها بينها وبين المرأة وبطنها المكوّر وهو يدقّ راسه بعود صمار جافّ ، كمن يفكّر.ثم لمعت عيناه فجأة وصاح”أنت اذن عاهرة الآسن الذي يسكن مغارة الجبل هناك؟َ، سيدفع قومك مالا كثيرا مقابل ثمرة الخطيئة هذه” غصّت تالا بحبّات التوت وجرى ماؤها تحتها من الخوف الذي انقضّ عليها فجاة.

وجرى كلّ شيء بعد ذلك بسرعةصرخت تالا من الألم ثم صرخ بعدها ابنها الذي نتعته دون مقدّمات لمّا حاولت الهرب.بكت وحاولت قصّ حبله السرّي بأسنانها لتهرب به لكنّ السرسري انقضّ عليه واقتلعه منها وجرى به وهي تلاحقه وتصرخ ويداها تقبض على الحجر وترميه أما ساقاها فقد اختلط عليهما ماء الحياة والدّم ولكنها لم تكن تبالي وهي تصرخ”دموزي…دموزي” منادية ابنها.ابن الحياة.ابن النور الذي خّلق ليعيش ولكنّ السرسري يحمله لحتفه، لقومها الذين يسكنون أعلى الجبال ويريدون قتلها وقتله بعد ان قتلوا ادوناي أسن.سيرمونه للكلاب.هكذا سمعتهم يتآمرون .اذا مات دموزي سيموت النور.

سقطت على الأرض وقد وهنت قواها وتدفّق الدم الحار من رحمهاومادت الأرض تحتها وشيّعت وليدها ببصرها الى أن غشتها الظّلمة وأيقنت أنها نهايتها على هذه الأرض الحاقدة، همدت يداها ودخلت نفقا مظلما لكنّ قلبها كان يحثّها على فتحهما ورفع راسها.وحين فعلت وجدت النور يغمرها واسن يمدّ لها يده وهو يحمل ابنهما دموزي.كانا في ارض غير الأرض وفي زمن غير الزّمن.اخذت يده ولثمتها وأراحت عندها وجنتها.قامت وقد زال الألم ولم تعد تشعر بشيء آخر غير نور عذب رحيم يحيط بقلبها ويدفئ

كلّ كيانها.لا شيء مهم الآن.كنا هناك ينتظرناها عند الضفّة الأخرى، قطعتان من فؤادها. 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :