تشكيل الأذى أو ميسون صقر أمام نفسها

تشكيل الأذى أو ميسون صقر أمام نفسها

كتب  :: المهدي الحمروني 

قراءة نقدية للناقد والشاعر المرحوم “السنوسي حبيب” في “ديوان تشكيل” الأذى للشاعرة “ميسون صقر” ، كانت الشاعرة أرسلت نسخاً بمعيّتي لإهدائها للأدباء الليبين ، وخصت الفقيد بالإسم والتوقيع ، وظلت المسودة لديَّ بعد انتقالها للعمل بأبوظبي آنذاك ، وانقطاعي الطويل عن مصر .

أيّة لغة هذه المشبعة بطزوجة الصياغة ، ورشاقة التراكيب ولهب الأحساس حين يفجُر مكنونات النفس الإنسانية الشاعرة في توهجها العاطفي ، وفي حسيتها الموقظة للواعج النفس ومتطلبات الجسد العفيُ الضاج، وشهواته ورغباته حيناً ، والقاذف بلهب الدلالة الحارقة أغلب الأحيان .
لامخاتلة في لغة الشاعرة ميسون صقر رغم مخاتلة الفكرة والتفافها وزئبقيتها أحياناً ، ولكنها لغةٌ تطرح مكنونات الشاعرة مفعمةٌ بحرارة الإكتشاف ، وحرقة التجربة،وضبابية الواقع ، وكابوسية قسوته الإجتماعية .
لغة بها كثيرُ من العفوية والمباشرة ، ومصادمة الواقع وتحديه ، متحلية بقدر كبير من الشجاعة الأدبية والآجتماعية، في هتك سدف وأستار مابهذا المجتمع من قيم سلبية وقسوة أبوية وتابوات تنيخ بكلكلها على قوى التحرر والتغيير ، خاصة حين يكون المبدع إمرأة تنتمي لإحدى الأسر العربية ذات النفوذ السلطوي الواسع في مجتمعها المحلي ، ورغم ذلك تكتب الشاعرة شعراً يتمرد على مجمل سلبيات القيم الكابحة السائدة في أسرتها وفي المجتمع من حولها ، وفي ال

مجتمع العربي المحيط إجمالاً ،والذي دأب على إعادة إنتاج قيماً مكبلة وكابحة للإنسان العربي عبر العصور ، وخاصة حين

 يتعلق الأمر بالمرأة جسداً وقيمة اجتماعية .

” يجتثني عِرقٌ نازفٌ
أنَّ آباءً كانوا لنا
عصموا الأعضاء بالبتر
وخلقوا من أعضاء أخرى
وظيفةً إضافيةً للشرف

هكذا ولِدنا مشوّهين
نزحف في الممرات المظلمة
(من قصيدة العصيان)
إن العصيان والتململ والتمرد على ضيم القيم البالية ، والأفكار والمفاهيم الظلامية ، وممارسات القمع الأبوي في مختلف تشكلاته، هو المحور الأساسي الذي يشع عبر الشعرية ، وتقوم اللغة الشاعرة برصد وتعرية مجمل هذه التشوهات التي تلحقها هذه الحالة الإجتماعية بالنفس الإنسانية عموماً، وبنفس المرأة الشاعرة بوجهٍ خاص . وعبر ستة أقسام حمل كل منها عنواناً خاصاً لمجموعة من القصائد ذات السمة الخاصة ضمن المجموعة ، ومن نافلة القول أنّ هذه الأقسام الستة تفتح على بعضها وتقيم حواراً وتناغماً فيما بينها وتتكامل لتقدم عملاً شعرياً يمتلك وحدته الموضوعية ولحمته العاطفية، وتنويعاته الإيقاعية والنغمية المميزة له بلغة تتسم بالنمنمة أحياناً، وبالهمس الحاني أحياناً أخرى ، وتعلو في مرات أخرى لتكون صراخاً حادّاً أو مكبوتاً ، وفي كل ذلك تفوح وبشكل ظاهر رائحة للفضح والتعرية والإدانة .

وتشكيل الأذى في مجمله بحثٌ عن التواصل مع الآخر، ومحاولة للخروج من قمقم الذات المحاصرة ، وقمقم الكوابح الإجتماعية التي تجعل من المرأة ضريرة مهجورة ومعزولة عن الآخر ، محروسة بآلاف القيود والموانع والستر ، وتجعل من جسدها ساحة للمبارزات العائلية المتعلقة بالشرف .
يتخذ هذا المسعى نحو التواصل وانفتاح الذات تجاه الآخر عدة تشكلات ، فهو أحياناً نداءٌ مباشر للتواصل عبر علاقة الرجل بالمرأة ، وأحياناً تشوُق أو تسجيل لحالات الهجر والفراق، وفي ملمح آخر تغنٍُ بالجسد الأنثوي وإظهار لإمكانياته الجمالية ومواطن الإغراء فيه ، والشاعرة لا تكف عن التنقيب داخل ذاتها عن مواطن الضعف والتأزم الناشئة عن الوضع المحصورة فيه هذه الذات .
وفي مسعى لتشريح الذات لالتجريحها ، مسلطة بذلك أنوار الكشف والفضح نحو داخلها ، فهي تمتلك من الجرأة ما يجعلها

تطرح في اللغة الشعرية مجمل هواجسها وآمالها وآلامها وإحباطاتها ، ولا تنسى في الوقت نفسه أن تقف أمام المرآة محاورة أعضاء جسدها وماتثيره هذه الأعضاء فيها من مشاعر متنوعة من الزهو والمباهاة حيناً ومن الإحساس بالإحباط والإنكسار والحزن أحياناً أخرى ،منتبهة في الوقت نفسه لمايثيره هذا الجسد حولها من مواقف وآراء وضغوط إجتماعية .
إنها تعامل جسدها من الداخل معاملة المتأمل المنقّب ، ومن الخارج معاملة المراقب المتفحص الباحث ، وف

ي كل الحالات لاتتوانى عن التعريف بهذا الجسد وتأمُله ومحاورته
” لاتفلتها لذة الليل
لكنها في ردائها الذي كلما خلفته
اشتدت شهوتها فتنة
تشبه القدمين السائرتين
نحو هذه الظلمة فيها ”
(قصيدة الشبه الذي يظهر )
وصوت ميسون صقر الشعري هو صوت الأنثى العربية حين تتمرد على ذاتها وعلى مجمل العلاقات الإجتماعية الظالمة من حولها ، صوت مفعم برقة الإحساس ووضوح الرؤية وجرأة طرح ماتؤمن به
” كما لو أنك أنت
وكأنني عصارة أو يدٌ تبدلني
هذا الجسد الذي يحملني يستجيب
والروح لأجلك
لاتحيلُ بيننا وبينك
أحلم :
البحر يشدني لاغرق
هنا صوت يخفت أنينه
مساع لاختلاف صغير
لاتضيعني ..
“من قصيدة النحلة “

السنوسي حبيب
هون 25 / 4/ 1999 م

 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :