تهديم الحِكمة

تهديم الحِكمة

تنّوَه 

مايشبه ترسب التجارب والمعرفة

سعاد سالم

في تهدريزة قديمة قال لي مثقف كبير أن الحسناوات الثلاث ما هي إلا تحريف للحسنات الثلاث في الأساطير اليونانية القديمة، هذه العبارة مما التصق أيضا في رأسي، لأن الفتوى بوجهها العام هو أن شخص ما قرر أن يضع تعريفا أو حكما على موضوعة ما ، ويقررها ،فتصبح  ذائعة وشائعة بل وملزمة، وهذا أمر لا يستطيع القيام به إلا شخص لديه سلطة، أو أن يقوم بذلك بأمر من السلطة، ويمكنني القول :أن السلطة بمفهوم السيطرة والقوة غالبا يأتي بها الدهاء .

ولأن التحريف شأن بشري طبيعي، سيحدث أيضا في موضوعات صغيرة ،سنعتقدها غير مهمة، لكنها قد تفتح لنا فم الكراهية ، بسبب ما نسميه سوء فهم.

ذلك لأن الفهم يتطلب أن يكون الطرفين في مستوى متقارب في اللغوة، وفي اللغة أو في الخلفية المعرفية وحتى الذهنية ،ليمكن تجنب الاشتباك الضار، فاشتباك الأفكار ليس ضارا بل الضار اشتباك المشاعر وطحنها لبعض بالكلمات.

لهذا رأينا تفجير طالبان تمثال بوذا ،وهستيريا تفشيخ التماثيل الأشورية في تدمر، و وتدمير أضرحة الصوفية في تمبكتو ،ثم اورقازم الطعن والدهس، والذبح والحرق وتحويل المسلمين قبل غيرهم إلى مهرجانات باربكيو لأجل الحوريات، و مآدب الطعام في الجنة، هذا أيضا سوء فهم ، تعمده صاحب الدهاء ، ومرره لآخرين أقل منه في المعرفة ، وفي اللغة، وفي الحالة الذهنية ،و طبعا لأن هؤلاء الأخرين لا يملكون سلطة ولا من أي نوع. فمن يملك السلطة يجردهم منها بالضرورة ، لهذا مبدأ الطاعة كان ركنا أساسيا في العسكرية وفي أي جماعة دينية. وهذا في الحقيقة ما يبرر سر التوافق بين السلطتين كما أنه يبرر أيضا العداوة بينهما حين يتخلص كل منهما ممن عصاه.

سوء الفهم يجعلني كما تعودت أرد على المكالمة ب: ألو ، ومؤخرا بدأت أتخلص من حذري في ذكر اسمي وأنا أرد: بالتحيات ثم اسمي، كما لو كنت موظفة استعلامات في شركة، لقد استغرقت سنوات طويلة من العيش في بلد جديد حتى تمكنت من الثقة في أن الطرف الآخر ليس شخصاً مكسد يرص على أرقام عشوائية وسيكون محظوظا لو اصطاد الاستروجين. هنا لاتجري الأمور على هذا النحو.

سوء فهم أن أدخل إلى مكان العمل وأن أجد شخصا لم أره من قبل ضمن الزملاء، فأكتفي بالتحية الجماعية ولا أمد يدي مصافحة بالتزامن مع تقديم نفسي : فلانة،مقلدة بعض مرح الهولنديات ، موخرا بدت هذه الطريقة تتسلل إلى عقلي كما فعلت بعض الجمل الهولندية الشائعة،

وفي عودة للأساطير وفي بحث سريع عثرت على مفهوم الخيرات الثلاث في الميثولوجيا اليونانية القديمة (الإغريقية) كما يبدو أنها تشمل : زيوس: ملك الآلهة وحاكم السماء والبرق، بوسيدون: إله البحار والزلازل والفيضانات ، ثم هاديس: إله العالم السفلي والموت والظلام. ويعتقد الإغريق أن هذه الآلهة الثلاثة تمثل القوى الثلاثة التي تحكم العالم، وهذا التفسير أكثر غرابة خصوصا في اعتبار الموت واحد من  التيمات أو الخيرات الثلاث. ولربما في هذا تفسير عن شكل الحزن على الموتى في شمال الكرة الأرضية واختلافه عن مظاهره في جنوبها، وتجلي عدم تقبله في سلوكنا المصدوم وكأنه ليس حتمية ملازمة للحياة. أليس هذا أيضا سوء فهم للحياة؟

وبهاذي الطريقة يُنزل البشر ، الحكمة والفلسفة إلى مستوى أدنى من الفهم والمعرفة، بشكل متعمد أو أن تكون الأمة قد دخلت في سنوات الانحطاط بفعل فاعل، أو كسنّة مايرة والتي تقول أن بعد كل قمة قاع ولابد،(كانا دامت لغيرك ماوصلت فيك)  ماينتج عنه كما قرأنا جميعا، مجازر وقتل الشماتة والتنكيل في مصائر الفلاسفة و أهل المعرفة بفتاوى الكفر والزندقة،وذلك حدث ويحدث في الديانات الثلاث.

فلو وجد هذا التحريف في الحسنات الثلاث،  سيبدو منطقيا أيضا ،أن تلك النسوة حسنات، لأن حسناوات في الحقيقة لا تعطي أي دلالة روحية أو فلسفية للتمثال، على عكس أبعاد ومعاني الأساطير الإغريقية بعمقها في محاولة حل ألغاز الوجود ، وكيف أنها اتكأت عليها الديانات اللاحقة بإعادة صياغتها، ونحتها، وبذلك ليس مستغربا من انحطاط الفكر أن يجعل الحسنات الثلاث مجرد ثلاثة نساء جميلات حسب التسمية، ويصبحن كجسد في أول تشيئ للحكمة، وللعقل، وللمعنى ،لأن تافها أو لئيما ما، رأي فقط الأجساد ، اللعنة التي لاحقت كل ماتأسس عليه الوعي الجمعي عن النساء لاحقا ،  لأن قوما أو فردا أساء الفهم.

من لم ينزعج من نبش القبور وتهديم الأضرحة في الجوامع، وفي معالم المدينة، إلا الذين علت اللغة عليهم ، ورأوا فقط ما بدا أنه تهديدا لسلطتهم على الناس، لطالما كانت الآثار والمرويات واللغوة تهديدا للمحتل الجديد حتى لو كان من نفس العقيدة، إنه استعراض قوة ضروري، استخدمه الداهية الذي يعرف أن مبدأ الهيمنة، هو تجريف الذاكرة ولن يكون هناك أقوى من الطاراطوري والمسحة والسكين، إنه يسلخ الناس عن انتماءاتهم الخاصة، ويطارد حتى عاداتهم في الطعام، والكلام ،والسلام و إدارة الحياة، ولن يكون من الممكن التأكد من هو السلطان الداهية هنا ، صاحب المسبحة أم صاحب البوتيل.

في الكنيسة القديمة في ديلفت الهولندية، ترقد الرفات في سلام، أما خيسكا فقد سردت هذه القصة في تهدريزة حديثة معها: لا أعرف لماذا كان الناس يدفنون موتاهم تحت أرضيات الكنائس، ولكن شاع أيضا أن استخدام البخور الآن يختلف عن أغراض استخدامه في الزمن القديم ذاك، فحينها كان يغطي على الروائح الكريهة المنبعثة من تحلل أجساد الموتى، فيما بعد ارتبط بالطقس الديني وكأنه جزء من الطقوس.

ففكرت بأضرحة اطرابلس، سيدي الشعاب ،و سيدي عبدالسلام لسمر، وفي عموم أضرحة صوفية ليبيا  في الجوامع التاريخية، التي لانعرف أين استقرت عظامهم المنخورة، والتي بدت لمن يخطفوا الكلمة من راس الماعون، أبدى من ترقيع الجدران المنخورة بكل أنواع النيران. وهذا سوء فهم آخر لفكرة التواضع كلما ارتقى بك العلم.فمابالك وأن ليس ثمة علم إنما هى  الطاعة التامة  لمتعمد سوء الفهم.

وفي شؤون أخرى النامة عن سوء الفهم، بسبب من ضعف ملكات أسلافنا فينا ، الفراسة، وقَصّ الجُرّة، ودلالات مواقع النجوم، وإن مازال أثرها فقط في اللغوة،تماما زي الآثار ،وذلك كأثر للحكمة التي واصلت حتى عهد قريب سيرها على ألسنة الليبيين في الأمثال، والنصائح ،وفي كل ماتخمّر بالتجارب والاطلاع من اختلاط أهل العلم بالعامة، وتناقلها والغوص فيها قبل زمن قل ولا تقل، وقبل زمن رواية حفص، والهركة الميدي، والمسواك، وقبل أن ننسى اسيكم بلخير وقبل أن تتغطى النساء بالسواد، وقبل أن تكون الجمعة دونا عن باقي الأيام مباركة.

  _______ سمّى ماهى الحسنات الثلاث، وخوذ بلاد!

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :