خبز على طاولة الخال ميلاد للكاتب الليبي محمد النّعاس

خبز على طاولة الخال ميلاد للكاتب الليبي محمد النّعاس

سعيد فتاحين الجزائر

سيرةٌ رجل يبحث عن رجولته تحت سندان المجتمع و سطوة حياته العاطفيّة.

يقول ” فرانتس كافكا” : «في أغلب الأحيان، من نبحث عنه بعيدا، يقطن قربنا» هكذا كانت رحلة ميلاد في البحث عن حقيقته، حيثُ ألقى بنا الكاتب في نص يسحبنا إلى عشرات الأسئلة التي تُصاحب الإنسان الباحث عن رجولته، و بصوت الراوي العليم ميلاد يقول عن ذاته واصفها :”لم أستطيع أن أكون رجلاً حقيقّا كما أرادني أبي، كم مرَّة شعرت بأنَّ أمرّا ما شيئاً بداخلي، روحا شريّرة، شيطانًا، جنيّا يتلبسني ويحاول محو رجولتي” داخل نصٍ عتيق تسير بنا عجلة السرد التي يسوقها ميلاد داخل مجتمع لبيبي زاخر حيثُ يستعرض الكاتب لغة المجتمع الليبي الممزوجة بالتراث في القريّة يسكنها و تبدأ القصة بخوف الأب على ابنه ميلاد وحكايته داخل أسرة أنجبت ذكرًا و أربعة بنات صالحة وصباح و صفاء و أسماء، وقد تعلم ميلاد طهي الخبز بأنواعه في الكوشة و لكن سرعان ما وجد سطوة الرأسمالية المتوحشة تهدد وجوده في صورة عمه الذي سلب منه الفرن بعد موت أبيه، و شخصية البزنس مان في العبسي الذي جعل من ميلاد عبدًا له مقابل تعليمه معنى أن تكون رجلاً.

كُتب هذه الرواية من زاوية مختلفة عن شخصية كانت تنزع شعر السيقان ل اخواته البنات ، و عن رجل تبادل الدور مع زوجته التي تنفق عليه المال في المقابل كان يطهو ويغسل ملابس زوجته، ويُصارع للعيش داخل مجتمع رجولي، و يحاول أن يجد ذاته المتأرجحة بين الشّك و اليقين في أنه رجل، يسرد لنا ميلاد صراعه مع “المادونا” في الخدمة العسكرية ومحاولات الانتحار التي كرّرها في حق جسده الطريّ أو” التيبانة” بالعاميّة ، و كيف يرى الناس هذا الخال و ابنة أخيه تلبس المكشوف ذاهبةً إلى الجامعة.

استحضر الكاتب وجهًا من أوجه الدين وشخصية” بنيامن” اليهودي وابنته سارة، و كاشفًا لنفاق المجتمع بخيانة زوجته زينب و في رحلة البحث عن سبيل إسعادها يجد المدام مريم لكي تنصت لوجوده أخيرَا وتدفع له مقابل تعليمها طهي الخبز، كُتبت هذه الرواية بأسلوب الاعتراف بالذنب و ممارسة الخطيئة و القلق الذي يصاحب الإنسان الذي لا ينجب و عن المسكوتين عنهم الذين يعيلون بيت البنات بعد موت الوالد و الأم، و جاءت هذه التحفة السرديّة كاشفة عن تفكير المجتمع العربي، عن الشخصيّة المتحررة التي تسكن المرأة و دواخلها وعن مرايا المجتمع العربي و ليبي بالأخص في زمن ما بعد الاستعمار الإيطالي و عن سندان المجتمع الذي يرى أن المخنث في المجتمع رذيلة أو عيبٌ أو جثة لا يجب أن تعيش حيثُ يقول الكاتب في أحد الفصول :

“ولكن الآن ازداد شعوري بملابسي، بوجودها ملتصقةً على جسدي الذي يحاول التخلص منها، هل هذا ما يشعر السجناء.

استعمل الروائي تقنيّة البطل الواحد و تقنيات الفلاش باك و الاستباق و الاسترجاع حَتَّى يشكل لنا علاقات مترابطة تشّكل لنا رواية بلسان المجتمع الليبي و نظرته أن رجولة غضبٌ وجنس، ويحدثنا الكاتب تارة عن الحب و الفن و الموسيقى و يأخذنا تارة إلى العمران والحدائق ومخلفات الاستعمار، و يكشف لنا أحكام المجتمع في وجه أولئك الذين عاشوا ذكورًا دون إخوة، وحدثّنا عن عادات وتقاليد المجتمع الليبي، وعن العبور إلى تونس و معاناة الإنسان العربي مع كبته، حيثُ يرسم لنا جسد ميلاد المتناقضة و حكاياته في سبيل أن يجد ذاته، تاركًا لنا رسائلاً مشفرة عن الدين و السياسة و الجنس، نابشًا في القوالب المسكوت عنها، مُستعينًا بيبئة المجتمع الليبي التي صنعت لنا روايةً تارةً تمسكك وتارة تجد نفسك أمام حشو لغوي و تارة أمام وصف باذح منتهيا بنا إلى نهاية مأساوية في سبيل إنقاذ البطل الذي وجد نفسه، تاركًا لنا عشرات الأسئلة التي تُصاحب القلق الوجودي لهذا الإنسان العربيّ الذي لم يفهم يومًا معنى الرجولة بمختلف تفاصيلها.

ما يمكن القول عن هذه الرّواية، أنها تستلهم تراثها من بلدان شمال إفريقيا ليبيا، تونس، الجزائر، ولكن من وجهة نظري شعرتُ أنَّ الكاتب لم يُعطي الأصوات الأخرى الحُريَّة الكاملة في إبداء نظرتهم لميلاد، تلك النَّظرة الجريئة عن شخص يسعى إلى إيجاد رجولته، إنَّها روايةُ كُتبت بإتقان وأعتقد أنها الرواية التي تستحق البوكر هذا العام، خصوصاً من ناحية الأسلوب ، و أنَّ الكاتب عاش حقًا شخصية ميلاد و عبّر عنها بعيداً عن أيديولوجية التي تسكن الرواية مملكة هذا العصر اليوم.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :