كتب :: محمود السالمي
اعتاد أغلب المستمعين للأغاني الشعبية أن يقسموها إلى عدة أقسام حسب ما تم التعارف عليه فى المجتمع من أنواع للغناء فهناك أغانٍ مصاحبة للعرس الذى يكون عادة بعدد من الإيقاعات التي تشترك فيها مجموعة آلات مختلفة منها الطبل والدربوكة والمقرونة ( المزمار ) وهي الآلات الرئيسية في العرس الليبي عموماً . وتكون أغاني العرس في المعتاد مكونة من بيت واحد أو مقطع واحد يردده الجميع مرات عديدة مصحوباً بالتصفيق ثم ينتقلون منه إلى غيره وهكذا.. ويستمر هذا النوع من الغناء ساعات طويلة قد تدوم إلى الفجر إذ أن العرس يقام عادة في فترة المساء وتحديداً في الليل فهم يقولون مثلا : عينى وين طروا غاليها لا ترقد لانوم ايجيها أو يقولون : يا لابس شولاكي الوردي خذ وردك وأعطيني وردي والشولاك : هو نوع من الأقمشة التي اشتهرت فتيات الواحة قديماً بلبسها كأردية أو يقولون : هالغزال لمن يا ربي يمشي في الشارع ويصبي أو يقولون : كان بتاخذ خوذ بنية لا صامت لا دارت غية كان بتاخذ خوذ ع لول خلك ع السنز المتحول السنز المتحول : يشبهون المرأة التي سبق لها الزواج أو التي اشتهرت بعلاقة مع شخص بأنها ككفة الميزان المائلة أو المتحولة عن مكانها … وعندما يتعب الجميع يأخذ أحد أبناء الواحة الطبل ويبدأ في غناء نوع آخر من الغناء يسمى ( السواقي ) لعل اسمه اشتق من كون أن هذا الشخص يسوق المجموعة في الغناء أو كأنه قائد الفرقة الذي تنساق له البقية وتتسم أغاني السواقي بأنها أكثر بطئا من أغنية العرس في الإيقاع وفي طريقة الأداء رغم أن البعض يميز بين نوعين من السواقي : نوع بطيء ينتهي عادة بأغنية خفيفة في الأداء والإيقاع تسمى (برول)كقولهم مثلا : على كثر سياته وقلة خيره حنون خاطري ما باش يالف غيره أو يقولون : عيني علي مشكاي بكت لين بكت كل زول معاي عيني علي الزينين جرى دمعها لين سيلت غبين زمزم وسوف الجين ووادي نفذ من بو نجيم وجاي ونلاحظ أن الأغنية ذكر فيها أودية ( غبين ، وادي زمزم ، وادي سوف الجين ) ولكنها تشير صراحة إلى واحة الجفرة حين يقول ( ووادي نفذ من بو نجيم وجاي ) بونجيم منطقة على طريق طرابلس الجفرة قليلة السكان ولا تكاد تجد عمراناً بعدها حتى تستقبلك
الجفرة أو يقولون : خوذي النصح ياعيني ونامي وديري عزم لين تلقي قسامي ونوع آخر يبدأ خفيفا من البداية إلى النهاية وقد تشترك فيه إلى جانب الطبل آلة المقرونة ( المزمار ) والدربوكة مثل قولهم : عرب غاليتيهم ياعين تقاصوا والمرسول ضنين غاليتيهم بغلاك انتِ منهم ياقل نجاك أن كان الغالي ما داواك بعدها ما تطري حيين أو يقولون : عند المغرب تقوى ناره جرحه هلى بعيدة داره …. . وغيرها من الأغاني الخفيفة … وهناك أغاني النخيخة وهي أغانٍ معروفة في الجفرة ( هون ، وودان ، وسوكنة ) فقط وتؤدى على الطبل ، بدون المزمار والدربوكة ، ولها تقطيعاتها اللحنية الصعبة التي لاتشبه أي نوع آخر من الغناء … وهناك الأغاني التي تُصاحب بالرقص الشعبي الجماعي كـ ( الدبدابة ، ورقصة الحظ المشهورة ) .. وعندما يذهب أغلب الليل وينال التعب من الجميع يضم أحد أبناء الواحة الطبل إليه ويغني : غدا الليل عند اللي تهنا ساعة ويطوال باللي هايضات أوجاعه أي أن الليل رغم طوله فإنه يغدو و يصير قصيرا لدى الإنسان المرتاح البال الهني الخاطر حتى أنه يشعر بأنه لا يتجاوز الساعة من الزمن وهو نفس الليل الذي يصير طويلاً جداً على من هاجمته الأوجاع والألم من جراء الحب (ويطوال باللي هايضات أوجاعه ) هايضات أي هائجات وشتان ما بين الليلتين فالأولى هناء ونوم وراحة بال أما الأخرى فسهر ونصب وتعب ، ثم يقول : اللي تهنا أيسير ويطوال باللي خاطره متحير غدا طول ليله في الهموم أيدير ويفرح ليا تاق النهار شعاعه فالإنسان الهني البال يصبح ليله يسيراً سهلا وينام ملء أجفانه لا ينغص عليه نومه أمر ، أما الإنسان الذي أخذت الحيرة طريقها إلى قلبه فإن ليله سيكون طويلاً بسبب كثرة التفكير وهروب النوم من عينيه ( يطوال باللي خاطره متحير ) ويزداد ليله طولا لأنه كثيراً ما يراجع همومه ومشاكله التي لا تفارقه حتى في وقت الراحة (غدا طول ليله في الهموم أيدير ) أيدير أي يراجع .. ولكنه ( يفرح اليا تاق النهار شعاعه ) إذ تدركه الفرحة بمجرد أن يطالع أول خيوط الفجر تتسلل من وراء هضاب الواحة لأن هذه الهموم ستغادره طيلة النهار ولكن إلى حين ، وكأني بشاعر هذه الأغنية قد طالع قول الشاعر العربي ( امرئ القيس ) حين يقول
وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنـواع الهموم ليبتلي فـقـلت لـه لـمّـا تـمطـى بـصـلـبه وأردف أعـجـازا ونـاء بكلكل ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِِ بصبح وما الإصباح منك بأمثلِ ثم يضيف : اللي تهنا راقد غدا العمر ما طالن عليه مراقد كيف الصغير اللي من أمه فاقد ما هوش من شمت طويل إقناعه يستمر شاعر الأغنية في المقارنة بين من هو هني البال ومن هو عكسه تماما ًفيقول إن من تهنا نام مرتاحاً ، ويمر عمره دون أن تتطاول فترات بعده عن النوم نتيجة الهموم ، ولماذا يجافيه النوم طالما أنه لا شيء يؤرقه … أما الآخر فإن ليله كليل الطفل الصغير الذي فقد أمه ولم يستأنس بأحد غيرها وسهره ناتج عن فقدانه لأمه وليس لأنه لم يشتم رائحة (طويل إقناعه )القناع هو طرف الرداء الذي تضعه المرأة على رأسها ووجهها طلباً للسترة وهي من الملابس الليبية التقليدية المعروفة في كل مناطق ليبيا .. وطول القناع في الموروث الشعبي هو كناية عن الحياء والسترة ونبل الأصل ، ثم يقول : اللي تــهنــى اشــوية ويطوال بلي كيف رايح شيا مذبال من فرقة وماله سية ومقهور من خالف ربيب ذراعه المقارنة هنا في هذا البيت معقودة على أساس أن الإنسان حتى وإن كان مرتاحاً قليلا أو ( شوية ) فإنه يعتبر مرتاحا وهنيّ البال ، ولكنه يطول بأي إنسان يعيش حالة القلق والحيرة ويشبه نفسه بالإنسان الذي أضاع شيئاً له وعجز في إيجاده بعد أن كان بين يديه ( ويطوال بللي كيف رايح شيّا ) وهو بالإضافة إلى ما سبق يذبله فراقاً ليس له ذنب فيه ( مذبال من فرقة وماله سية ) ثم يقول إنه كالشخص الذي ربى ولداً ربيباً له ليتخذه ولداً له وحينما كبر خالفه في كل شيء ولم يكن ما أراده ولذلك فإنه يشعر بالقهر … ثم يقول : اللي تهنى نومه غدا العمر ما عدوا عليه خصومة وناري عللي منكسر سلومه والــكسر مـا يجبر بلا صناعة يقول الشاعر هنا ، إن الذي نام وارتاح وشعر بالهناء يعيش حياة هادئة ويمضي عمره دون أن يعد عليه أحد من الناس مشكلة أو خصومة ثم يتحسر بكلمة ( ناري ) وهي كلمة عامية تدل على الحسرة والندم .. ويشبه نفسه بمن يرتقي درجاً أو سلماً فلما وصل إلى منتصف المسافة كُسر السلم وسقط في الهاوية ، وهذا الكسر يحتاج إلى صانع ماهر وحاذق لإصلاحه ، ولكن هيهات .. هيهات وهكذا هي الهموم دائماً فقديما قال الشاعر العربي : وصنوف الهموم مذ كن لا ينزلن إلا على العظيم الشريف وتضل الهموم قدر الإنسان ، وهل يمكن للإنسان أن يهرب من قدره ؟ ألم يقل الشاعر : وهَل يَأبقْ الإنسانُ من مُلك ربِه فيخرجُ عن أرض له وسماء.