محمود السالمي
قراء صحيفة فسانيا
: نتواصل ، فى هذا البحث الدؤوب عن عديد المعاني التى شملتها الأغنية الشعبية التراثية وقصدها قائل الأغنية (( النخيخة )) تحديداً ‘ فهو يقدمها عبرالاسلوب الأقرب للفرد البسيط الذى لم ينل قسطاً كبيراً من التعليم يتيح له الغوص فى شروح أمهات الكتب .
لكنه يقبل النصيحة والوعظ والحكمة من خلال الأغنية الشعبية لأسباب كثيرة ، ليس أولها انه يستمع أليها فى كل فرح ( عرس ) وهو فى حالة من الابتهاج الذى نعرفه جميعاً فى أعراسنا ، فهو يأخذها من باب أنها أغنية ولاشى اكثر من ذلك ، دون آن يدرك أنها استقرت فى وجدانه بصورة تمكنه من استدعائها فى أي وقت وتحت أي ضرف ، ولاتلبث أن تصير الحكمة أو المثل أو الموعظة المدرجة فى الأغنية من بين التعابير الأكثر شيوعاً فى المجتمع المحلى ، ثم هناك أمر أخر ، يتعلق بكون الأغنية الشعبية نابعة من نفس البيئة التى يعيش فيها الفرد ، فهي ليست بالغريبة ولأهي مستجلبة … وبالتالي يمكننا اعتبارها تحريك لمكنونات حية داخل كل واحد منا .. والأقرب إلى النفس والوجدان ..
والأغنية الشعبية فى تقديري ليست مجرد غناء لاهدف من ورائه ، فهي تحمل فى طياتها كل ما يحتاجه الفرد لتكوين الشخصية ، وعلى سبيل المثال لا الحصر ، سنآخذ أغنية وجدت أن قائلها برع أيما براعة فى تمرير عدد من الوصايا وذيل نهاية كل بيت من أبياتها بخلاصة تجربة من تجاربه التى تصلح لأن يأخذ بها إي منا الآن نحن الذين نعيش عصر التكنولوجيا والمعلومات ، ورغم مرور مئات السنوات على تاريخ ولادة أغنية ” ياقلب ماقلتلك من زمان ” أجد أن معانيها لإنزال تبرق وسط هذا الزخم من الفوضى التى نسميها ” الحركة الفنية “
إذ يقول قائلها فى مطلعها : ياقلب ماقلتلك من زمان اترك فلان وواطى النظر لين قسمك ايبان
فشاعر هذه الأغنية يعاتب فى مطلعها القلب وهو يقصد النفس .. الضمير .. أو الخاطر .. وجميعها مجمع الوجدان وماؤى العواطف ، لعدم الاستماع لنصحه فى ترك صديق او رفيق أو حبيبة أو زوجة .. اذ أنه قرر ان لافائدة من مضي سنوات العمر فيما لايفيد ولاينال ..
وسجل لنا فى هذه الأغنية انه سلم امره للقدر حتى يقضى الله امراً كان مفعولا ، واستعار عبارة ” واطى النظر لين قسمك ايبان ” للتدليل على ان مقسم الأرزاق سيجعل له نصيب وله فى كل شىء حكمة ، ثم يضيف قوله :- ياقلب ماقلتلك توب صلى واترك أولى وخليك من بنت حمرة أتجلى خيار الغلاء ما بجي بالتغلى وحجة فلان أنساه راهو مع الغير بان فأول ما يأمر به القلب ، هو التوبة .. والصلاة هي أول معالمها وعمادها النية ، ومحلها القلب ، ويصر على ترك ما هو فيه والنكوص عنه ، ويفصح عن عزمه ترك فتاة ذات بشرة بيضاء مشوبة بحمرة ، وهى متجلية بين بنات جيلها ، ويعطى بذلك اول خبراته بأن (( خيًار الغلا )) ..
افضل الحب ، هو المتبادل وليس الذى يكون من طرف واحد يتمنع فيه احد الاطراف عن الاخر وهو راغب او ( يتغلى ) فيه احد الطرفين على الاخر ، فيمعن المحب منهما فى الحب ويتيه الاخر عزة ودلالاً.. وهذا حسب رأى قائل الاغنية حب لا خير فيه وتركه افضل خاصة بعد اظهر رغبة وميلاً لاخر . ويستمر فى الاغنية اذ يقول :- ياقلب ما قلتلك يامشوم بطل اللوم وخش البحر بالسلاسل اتعوم أودك ليا هب ريح النسوم اتحل الخزان وذرى بلا ريح مولاك عان فهو فى هذا البيت يصف قلبه( بالمشوم ) اى المشؤوم ..
فمن تصريفات اللهجة الدارجة تخفيف الهمزة وإبدالها بالواو المخففة .. والكلمة ( مشوم ) فصحى على كل حال .. ويطلب من قلبه إيقاف اللوم .. فهو السبب فيما يحدث لاصراره على امر يعاند القلب فيه العقل ويعاكسه فيه .. ويشبهه بالسفينة التى ستدخل البحر الذى هو الحياة الجديدة التى يريدها له (( ولااعلم كيف سنحت هذه الفكرة بذهن قائل الاغنية طالما انه ابن البيئة الصحراوية ولعلها من ضمن مشاهداته الخاصة )) وهو بهذا ينزع الى حرية الفعل ، ويقول ( ودك ) اى ان مناه ( ليا هب ريح النسوم )
اى عندما يطيب هواء النسيم ( اتحل الخزان ) ففى الواحة وبعد موسم الحصاد يجمع الفلاحين الغلة من قمح وشعير وذرة وغيره فى مخازن معدة لهذا وعند الحاجة يستغلون هبوب نسيم ( البحرى ) كما يسمونه فتفتح المخازن التى تضم الغلة وسنابلها التى هى طور الدرس ثم يضيف (( وذرى بلا ريح مولاك عان )) و(( التذرا )) هى الطريقة التى يستخدمها الفلاحين فى الواحة لفصل الحبوب عن سنابلها ،يتم فيها استغلال هبوب الرياح الشمالية الباردة فى فصل الخريف ، وكأنه يشير الى ان الله سبحانه وتعالى يساعد من يعمل ، وريب ان هذه الطريقة القديمة قد اختفت مع ظهور الالات الخاصة بالحصاد ، وكأنى بالشاعر العربى قد عناهم حين قال :- لقد انقضت تلك السنون أهلها فـكأنـها وكـأنـهم أحلام