ربيع العمر

ربيع العمر

  • الـساكتة عبدالله

ذلك المساء الشتوي الحزين تساقط الثلج كأكثر ما يفعل ، غطى أرض الفناء الأمامي و الخلفي .

و كانت (ليلى) تجلس في غرفتها تراقب الثلج من خلال النافذة موصدة الزجاج ، و تشعر بأنه يصب في أعماق قلبها ، كان الجليد يغلف قلبها فيصيبها بالحزن الشديد .

شعور كئيب بالتعاسة و الوحدة يتملك قلبها منذ أيام ، لا تدرِ له سببًا ، كانت تنظر إلى الشوارع و البشر فلا تكاد تميز إلا اللونين الأبيض و الأسود ، ربما حقيقة أنها وحيدة فعلًا في هذه الحياة قد بدت أمامها بوضوح أكبر .

و ربما هواجس الطفولة و الماضي الحزين قد بدأت تلح على ذاكرتها مؤخرًا ، الظمأ للحنان ، الظمأ للحب ، الظمأ للاهتمام .

و ربما السببين معًا ، المهم أنها باتت تدرك الآن إلى أي حد هي فتاة تعيسة.

تنظر إلى الساعة برتابة و ملل ، لا فارق لديها في الوقت لكنها تحاول أن تعيش ، تنهض من مكانها و تخرج إلى الصالة ، فتجد والدتها جالسة هناك و ما أن تقع عينيها على ابنتها حتى يكفهر وجهها و تبدأ بالصراخ :

لماذا لم تغادري غرفتك منذ البارحة ؟ إلى متى ستستمرين في هذا الصمت و هذا البرود ؟ وجودك في هذا المنزل كعدمه !

هكذا تستمر والدتها في الصراخ حتى تغيب (ليلى) عن ناظريها ، تعود إلى غرفتها و تتصل بحبيبها :

(عادل) ! أنا بحاجة إليك !

يأتِ صوت (عادل) من بعيد غريبًا كأنها لا تعرفه :

فيما بعد يا (ليلى) فيما بعد ، أنا مشغول جدًا الآن .

تغلق الهاتف و تفكر ، متى لم يكن (عادل) مشغولًا عنها ؟ و ماذا كان سيحدث لو وفر بضع دقائق فقط من أجل أن يعرف ما بها ؟ هو لم يسلها حتى !

عندما وصلت لهذا الحد في تفكيرها تضاعف إحساسها بالحزن و انسكب دلو من المرارة في أعماقها.

الظمأ . . الظمأ ..

تلحفت بغطائها و حاولت أن تهرب إلى النوم ، كانت تجاهد لتخرج دموعها علها ترتاح ، لكنها لم تخرج ، ظل حزنها باردًا صامتًا ، اعتدلت في جلستها و تنهدت ، أتراه مرض الاكتئاب؟

عندما تشعر بالتعاسة فجأة و يلازمك هذا الشعور شهورًا فلا بد أنه الاكتئاب !

ستنتظر حتى الصباح ثم تذهب لأخصائي نفسي ، علها تجد حلًا.

صباح اليوم التالي استيقظت (ليلى) ، فتحت عينيها فتسرب ضوءٌ ما من خلف النافذة إليها ، لم يكن شعاعًا بل كان ضوءًا أصفرَ  قاتمًا يحاول اختراق السحب المليئة بالغبار.

ارتدت ثيابها و خرجت دون إفطار ، لم تدرِ أين تذهب لكنها سارت على غير هدى ، و حينما انتصف النهار شعرت بالتعب فجلست حيث هي ، على تلة قريبة و شدت معطفها إليها ، نظرت حولها فشاهدت أطفالًا يلعبون على أرجوحة قريبة ، شعرت بانقباض لا تعرف سببه لكن إحساسها بالحزن تضاعف !

رباه ! مالذي يحدث لي ؟! “

الظمأ . . الظمأ !

أغمضت عينيها و أخذت تتنفس بقوة من فمها ، كانت تشعر بكتلة من الظلام و الحزن تحتل جسدها شيئًا فشيئًا لتحل محل روحها.

فجأة، شعرت بوجود شخصٍ ما أمامها ..

فتحت عينيها مسرعةً فإذا بها تجد قبالتها رجلًا يرتدي معطفًا طويلًا و ينظر إليها.

و كانت نظرات عينيه مريحة إلى حد لا يصدق.

كان في منتصف العمر ، ربما في الخامسة و الأربعين ، ابتسم لها ، حاولت أن تبادله الابتسامة فلم تستطع.

جلس بجانبها و قال : أتأتين دائمًا إلى هنا ؟

لا !

يخيل إلي أنني رأيتك من قبل .

لم تجبه ، لكن خيطًا من الألفة تسلل إلى قلبها .

لماذا هذا الحزن الذي يكسو قلبك؟

نظرت إليه ، ابتسم ، كان من النوع الذي تضيق عيناه حينما يبتسم ، لم تعرف تفسيرًا لكن شيئًا ما في عينيه أذاب الجليد الذي كان يغلف قلبها ، ربما لأنه لم يسبق لأحد قبله أن اكترث بحزنها ، ربما لأن هذه الابتسامة تلامس شيئا ما في ماضيها ، طفولتها ، شعرت أنها – بشكل أو بآخر – تنتمي إليه .

وقفت فوقف بدوره ، قال لها :

مالذي يحزن زهرة مثلك ؟

نظرت إليه بدهشة ، اتسعت ابتسامته ، فتح ذراعيه إلى آخرهما .

و دون أن تشعر ، و دونما مقدمات ودونما تفسير ، ألقت بنفسها بين ذراعيه ، احتضنته بقوة و بتشبث و كأنها تخشى أن يكون حلمًا أو وهمًا ، كانت ذراعاه تلفانها بأمان و حنان ، شعرت بأن وجودها يندمج في وجوده ، أو أنها تستمد منه شيئًا ما ، لكن ظمأها العاطفي بدأ يتلاشى شيئًا فشيئًا ، و تذكرت بشيء من التهكم أنه لم يحتضنها أحدهم مذ كانت في الخامسة من عمرها.

الارتواء . . الارتواء ..

كانت ترى الآن شلال حنانه يروي غرف قلبها العطشى القاحلة غرفة غرفة ، حتى فاحت رائحة الندى المتشبعة وأزهر بستان من الورود هنالك.

الارتواء . . الارتواء ..

و لأول مرة بدأت ترى شعاع الشمس شعاعًا و ليس ضوءًا قاتمًا ، و بدأت تشعر بدفئها و حرارتها .

الارتواء . . الارتواء

لا تدر كم من الوقت مر لكنها كانت كالجنين الذي يستمد حياته من مشيمة أمه ، لن تبتعد عنه حتى تتأكد أن ما استمدته من الحنان لن يدع فرصة لظمئها العاطفي أن يعاودها مجددًا.

و عندما ابتعدت قليلًا عنه ، وفتحت عينيها ، كانت الدنيا من حولها مزدانة بالألوان ، و كانت ثمة شمس ربيعية دافئة تزين الأفق.

أمسك بكفها و مضى فمضت معه ، حيثما هو سيكون موطنها ، و حيثما يحل سيكون منزلها ، فالبيوت ليست ما نسكنه بل ما نرتاح فيه.

و أزهرت أشجار الورد في قلبها كأجمل ما يكون !

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :