رحلة بحث عن لخريف

 رحلة بحث عن لخريف

تَنّوَه ” ما يشبه ترسب التجارب والمعرفة ”

سعاد سالم / soadsalem.aut@gmail.com

 فلبلاد

في اللغوة وفي اللغة

في فصول العام، وفي جدول الحصص.

قصة المعرفَة

مازلت لا أسيطر على غضبي فيما أرى كيف تداس المعلومات والكتب الهامة تماما كما يداس ورق الشجر في الخريف، غير أن الورق الجاف يعود ليصير سمادا للشجرة ذاتها، أما المعلومات المهدورة تجعل الناس معرضين لإيذاء أنفسهم ،والكتب تسد منافذ تصريف المياه وتلوث بيئة الشجرة وأخرى قطعت لتصنيع الورق ،وما يمكن أن يترتب عن ذلك غير أن يفوح الجهل كما يفوح الآن بصورة غير مسبوقة، والجهل مش سُبّة بل هو نقيض المعرفة، فالجهل بالشيء هو ما يقود الناس للخوف، أو أنْغِست بالهولندية وهى أشد قوة من كلمة الخوف بحروفها الضعيفة وأقل حدة من كلمة رعب التي تحيل إلى مناخ آخر، وتأثير الخوف أن يجعل الناس أعداء بعض، ليس فقط بين المجتمعات المختلفة بل بين أعضاء المجتمع الواحد وبين افراد العيلة، لكنهم سيتحدون معا ضد العارف والمعرفة حين يتوحد مصدر الخوف، حتى لو كانت معارف مناقضة لما يعرفونه.

نعم دائرة تستحق دراسة وافية غير منفصلة بين مختلف التخصصات الطبية، ولكن، كان عليّ ألا أغضب فالناس محكومون بالخوف كأول دفاع غريزي، وأنا من الناس الخائفة ، فالغضب أيضا خوف متخفٍ بالمعرفة.

تذكروا جيدا ما تضحكون منه ،أعني الكتاب الأخضر : إنه المرشد لقلة الخير، إنه الكتاب الذي يعطي الحكمة التي سيطبق عكسها تماما ، تأملوا هذه الجملة السحرية: إن الجهل سينتهي عندما يقدم كل شيء على حقيقته، إذن ليعم الجهل ماذا نفعل ؟

بالزبط : نغرق المجتمع في المعرفة المزيفة، ونسلب كل شيء من حقيقته، وهكذا سيكون أفراد المجتمع بينهم العلماء والخبراء والاطباء والمعلمين وحتى كتاب وشعراء ورجال اعمال، وسياسة وصحفيون وكلهم من الجنسين ، جهلة، وأيضا جبناء أمام المعرفة، وحتى لو صادفَتهم يتجاهلونها ، أو يكتمونها خشية القطيع.

ما الحل إذا؟ سأستمر في محاولة التعرف إلى الخوف مهما تخفّى، لأنني بمجرد أن اكتشفه ينتهي غضبي وتوتري -تجربة أنوي الكتابة عنها قريبا- و هذا الحل الذي أدرجته هو خاص بي، ترى ما الحل بصفة عامة؟ في الواقع ، مازلت لا أعرف! غير أن محاولة الفهم وايجاد الأعذار لهذا التفشي للخوف، ذلك لأنه تقف وراءه آليات تضليل ربما غير متعمدة ولكنها هى أيضا قادمة من أفكار أناس خائفون من شيء أو أشياء يرغبون في طمسها أو تحريفها لأغراض نفسية لا تخلو من هدف ما، وهو الفعل الذي يؤدي إلى ما يعرف بثقافة القطيع، والتي بدورها مش سَبّة كما نجعلها تظهر عبر طريقة نطقها وسياق ورودها و تعابير الوجوه التي تنطق بها، إنه سلوك غريزي أيضا، فالفرد تلقائيا يقلد حركات الشخص المقابل، من دون وعي، فماذا لو كانوا حشدا.

نصيحة: ماتحرجيش وماتحرجش من الجهل، فالجهل ينتهي حين نذهب للتفتيش وراء الكلام او المواضيع التي لا نحب تصديقها، لأننا خائفون من الحقيقة، ولهذا  تحديدا ظللنا محكومين بلؤماء يتعاملون مع أهم طبيعة إنسانية كأداة سيطرة وسَوقنا به  إلى مصائر بائسة ،رسموها لنا بكتم المعرفة، وحتى طمسها تماما.

التضليل بالسخرية من الثقافة المحلية

ما علاقة الخريف؟ إنه أيضا موضوع يتعلق بالمعرفة لو قيض لي قول ذلك، فاللغوة هي نتاج البيئة المحلية ، والتقليل منها ، أو طمسها كما ذكرت ذلك مرارا كمثال / البرنامج الدعائي قل ولا تقل ، وتعريب المفردات الأجنبية التي تشابكت مع لغوتنا وصارت جزءا من تعبيراتنا، إنما هو تضليل يقود الناس إلى محدودية المعرفة، بسبب أن هذه المفردات المنزوعة من اللغة تعمل على زعزعة السياق المحلي في الفهم والتفاعل، مثلا كأثر طفيف على المعنى: علاش لابد أن نقول مطرقة وما نقولش قادومة ؟

فالمطرقة لو متبّعين معاي تحيل إلى حدة وكأنها هي الفاعل على عكس القادومة في الخيال الشعبي شيء نحن نستخدمه للدق، فيما المطرقة وفي سياقها اللغوي في العربية الفصحى استخدمت في الكتب والروايات على أنها هراوة.

ملحوظة: هولندا تستخدم في لغوتها وفي الرسمية أيضا مفردات أجنبية تعتبرها إضافة معرفية للغتها وتؤكد على أنها حية لأنها تمتزج مع مفردات ليست محلية، في قبول حكيم للغات أقوى منها أو احتلتها أو لمهاجرين إليها، منها مفردات عربية.

 وحسبما لاحظت أن الشعوب التي لا يسيطر عليها الخوف، لا تحتشد لغتها بمرادفات الشجاعة والطيور الجارحة والنصر، لأنها متعايشة مع واقعها كما كانت الليبيات والليبيون يفعلون.. وتذكروا ما ورثناه من حكمة كهذه في فهم الضعف: من يقول للصيد فمّك أبخر، تأملوا فقط.

 هنا الخريف كمثال على تأثير اللغة حين تسرق الحكمة العميقة وراء مفردات اللغوة وتمتد إلى معانيها، وتأثيرها، ثم كيف نسقط في الخوف ، عندما تتسلم البلاد إدارة  إغشيمة وهي في اللغوة تشير إلى المعنى المخفي للقوة التدميرية للجهل، وتأملن /تأملوا التعبير ومحل استخدامه  في لفظته المحلية في كل المقامات، إغشيم/ة كلمة تقطع صطّاش.

ياعينقابل ذهبت مع حنّاي

سأطرح هذه الأسئلة الصغيرة : كم شخص فينا يعرف خُضْرِت لخريف؟ وبطريقة أخرى من يتفاعل مع فصل الخريف؟ بل من يعرفه منّا، ويحس بوجوده ؟ وماذا يعني الخريف في عقلنا الجمعي؟

خُضْرِت الموسم هي ما يميز كل فصل من السنة من محاصيل ، قبل الطفرة الزراعية لن توجد أبدا في باقي الفصول،، وكانت هى ناموس حنّاي وأغلب ناس ليبيا، في تمييز دخول كل فصل، وتخص عينقابل هنا البدري من الخُضرا، وبما أننا في فصل الخريف، أعرف الرمان، لبلح، والتمر، والتفاح  المحلي اللي يتقرمش، والبروكلي،القرعة،و البطاطا الحلوة،وانجاص وغيرها الكثير(الخوضرا بالليبي تشمل مايقسم في اللغة الفصحى ، إلى خضروات وفواكه) .

في حصة الرسم في الإعدادي كانت من ضمن المقرر رسم الخريف، أرسم أوراقا بأشكال مختلفة، ثم اختار من الألوان ما يناسب الورق الجاف ،أصفر ،بني وأخضر غامق مع أطراف بنية وهكذا كما أرى شجر التوت في بن عاشور الغاص بها، ، لأن الخريف كان يمر بالحصص لذا عرفته وتعلقت به بسبب تشكيلة الألوان المفترضة في الخريف ،ورأيتها جذابة أكثر من رسم باقي الفصول، التي  كانت تجري فوق دفاتر الرسم، وهذه بعض المعرفة.

ثم كبرت قليلا وبات الخريف الذي يصادفني في الكتب مختلف تماما في دلالاته، لذا كنت اقرأ كما الجميع، عن خريف العمر والذي جسدته التجاعيد والعجز والموت وطبعا القبح ونهايات كل الأشياء الجميلة وبالأخص النساء، فيما كنت وأنا منهمكة في هذه القراءات المجازية المختلفة للخريف طوال فصل الصيف، كنت  أيضا منهمكة وبنفس القدر في تسلق التوتة شبه العارية والتي اصفرت أغلب أوراقها فأحب الجلوس فوق، والتحدث إلى أصدقاء متخيلين وفي الأثناء برد قليل يتسرب من قفطاني الخفيف ،فأضم طرفي الفانيلية على جسدي النحيل فيما ساقي في الريح وقدميّ محشوتين في سبيدروا، أين القبح في ذلك؟  الغيم والبرد المتردد والصفرة الجميلة في الورق تحت التوتة، قبل أن نكنسه مع أبي فيصدر خشخشة خفيفة فنكومه ونقفز فوقه، في مرح لايبدو مفهوما في تبسيمة عمكم سالم.

قذى للعين إذ كان محرما..هكذا يهجو البحتري عمل الخريف في أثناء مدحه للربيع،

وقيل أن البحتري عاب في الإحرام في رؤية سطحية، كما ذأب التفسير القاصر للكلمات، بأنه شبّه الخريف بالحاج في ملابس الإحرام، وهو لباس لا يمكن لأحد أن يلبسه إلا في ظرفه وليس شيئا (عام وباد)،إنما الإحرام له موسم يشبه تجرد الشجر من أوراقه، عنيت أنه لم يخطر ببالي حينها أن أحاجج المعلمة أو من ذكر احتجاجه على البحتري الذي هجى الخريف ،إنما هذه رؤية دالة على كيفية تشكل الرأي العام ،وعقلية  القطيع.

لكن أين هو الشجر؟

ليس للخريف تمظهرا جليا للجميع في لبلاد التي يأكل الرمل معظمها، ولم تفلح أي خطط جديدة (لو صح تسميتها خطط) في إعطاء  المواطنة  للشجر، وحتى ما تم توطينه وغرسه في ليبيا الايطالية ،وما بعده من حملات التشجير ، شاركتُ في بعضها كتلميذة في الابتدائي إنما قضت قلة المعرفة وتواضع نفوذها إلى اقتلاع مساحات كاملة منها، تحت عين الناس والسلطة قديمها وحديثها، من دون أن يتشكل خوف خاص بالناس معروف ومحمود المصدر ، وهو الخوف على فقدان بيئة صالحة للعيش والتي استغرق توطين أشجارها عشرات السنين، فكيف ستعرف الناس شيئا عن الوجه المخفي في اللغة عن الخريف ؟ وعن فلسفته كونه معلّم، فألوان الخريف الرائعة لن يفهم صفرتها وضعفها وتسليمها لمن يرى في الكتب أنه نهاية، دون أن يلاحظ أنه القبول ،وأن ما وقع هو قانون الحياة ما من خلود للأشياء، وإنما هو إفساح الطريق للجديد وعلى الدوام، وهكذا في دورة توازن الأضداد، لن تسمح لنا معاداتنا الشجر  من التعرف على جمال تحولات الخريف ، من رؤية جمال هذا التحرك الطبيعي والساحر ، ويضيع علينا بهكذا تجريف أهم درس في الحياة، التأمل ، التواضع، والانسياب. إنه درس في التداول السلمي لشئون وضرورات الحياة، لذا  الأحياء السكنية في هولندا و بالقانون لابد أن تكون لها رئة يتنفس منها السكان، وهو ما يسمح للناس بالتعرض لهذه المعرفة ، دونما حاجة لهتافات لا تتجسد كواقع ،في التأمل بما يحيط بنا من بيئة الخريف لا يتغير فقط مفهومنا القاصر للجمال وإنما تؤثر بلا أدنى شك في اللاوعي الجمعي بعدم مقاومة التغيير، والتحرر من التعنت، بل يعلمنا التمتع بالجديد، وكان من السهل جدا المحافظة على علاقة أجيال ليبية بالغابات والشجر أينما كان، لكن لغشيم سيشيد المزيد من أبراج حمام كما تسمي حنّاي وجيلها العمارات متعددة الأدوار، ليخنقها الحمو والسافي والجهل التام بالخريف. 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :