رسالة إلى  يوسف القدرة

رسالة إلى  يوسف القدرة

  • عبدالله الحريري

لا تحدثني عن الحرب

عن آخر الجنود في مرابضهم

عن العدو المُدَّرِئ بشاشة بعيدة وزر أحمر

أعرف كل ذلك

ولا تبشّرني بالنصر القريب، والله، والإخوة والأصدقاء

الله والنصر مع الأقوى

الأخوة والرفاق خانوا الأنبياء

أترى كل هذه الكثرة؟

إنهم وحيدون، معزولون.. كتفاً إلى كتف

كذلك أنت.. وحيد قرب نهايتك

لست كهلاً مريضاً يلتفّ حولك الأبناء والأحفاد

ولا مصاباً بالسرطان فيكثر حولك الأصدقاء

أنت لفجأة الموت

مغبراً وحيداً، وربما موزعاً على عدة أكياس مرقمة

إذن، حدثني قبل ذلك عن أشيائك العادية: الحبيبة، آخر قصيدة…

ولا تنس شيئاً كما نسيت أن تخبرني عن يوسف (الطفل الأبيض الحلو بشعر كيرلي)

صحيح، هل حقاً كان الذئب…؟!

هل ترى؟ لم يعد الفارق واضحاً!

الوقت على أهبة النفاد

لن يبقى جدار تُعلَّق عليه ساعة

لكن ساعة يدك ستستمر بالدوران،

تنتظرك مثل كلب وفي،

ثم ستأكلك إذا جاعت

هذه أشياء غير قابلة للتراجع، وكل شيء سيصير للأسوأ

في مخيم اليرموك أعدوا لنا صواريخ الفيل لدك البيوت:

الإسمنت كان مسلحاً

الضحايا أثبتوا براءتهم بعد موتهم!

من يدري.. ربما جهزوا لكم صواريخ وحيد القرن؛ دائماً ما يختارون أسماء كهذه!

ثم ستُمحى المدينة شيئاً فشيئاً،

تصبح صالة معزولة للعويل والنباح

حتى يسقط الصوت مثل ورقة شجر

لا تسألني كيف نجوتُ

ربما تنجو أنت أيضاً

لكنك ستبقى هناك

في لحظة وحيد القرن

اللحظة التي صار فيها الموت صديقاً، والحظ خيانة

حدق في عينيه جيداً، اخشه ولا تصدقه

هو سيطعنك في الظهر.. لا محالة

يثنيني النعاس، لكني أغالبه خوفاً أن تخوننا ساعة القصف، فتصبح مجرد حساب إلكتروني، ميت أيضاً

أنا أعرف أن لقاءاتنا في إستنبول لا تخطر على بالك الآن، ولكنها لا تغيب عن بالي، إنها الشيء الوحيد الذي يشعرني أني هناك، مثلك، تحت القصف. هل تذكر حين تحدثنا عن غزة وعن حرب المخيمات وعن مهيب برغوثي؟ كنت فوضوياً مضطرباً كأنك هارب من قدرك، وعُدتَ إليه بحجة العشق..

آه يا صديقي كم يتسع المجال بين (مجرد عشق) و(عشق مجرد)!

والآن، حدثني عن أسفل ومنتصف الهدف

حين يصير الباب وحشة، والنافذة انتهاكاً، والجدران إطباقاً

حين تصبح الجثة الكاملة عناية إلهية، وقماش الكفن ترفاً

لا عاصم اليوم من عشواء الإبادة

فقط الوقوف بخشية في الطابور

وأمل متوجس بالنجاة

تسقطون واحداً تلو الآخر

تُجمعون في أكياس ويعطونكم أرقاماً

قبور جماعية لمجهولي الهوية

ثم لن تنمو وردة فوق قبر، ولن يزورهم أحد في الأعياد

ثم لن تبقى قبور

الموتى الشاهد الأصدق على المجزرة/الجريمة، لذلك سيحرثون القبور قبل جفافها

هل أبدو لك متشائماً؟

تعال نرش على الموت سكّراً

حدثني عن ساعة القصف، أحدثك عن النجاة الواهمة

حدثني عن ارتطام القلب بالسقف، أحدثك عن سقوط القلب بين القدمين، وركله كعبوة فارغة

حدثني عن الجوع وشهوة الماء العذب، أحدثك عن أسعار الوجبات في كنتاكي مع علبة كوكا كولا، عن أسعار البيرة والنبيذ في بارات أوروبا، عن تأمين التبغ من ألمانيا إلى فرنسا.

حدثني عن الفاصل الوهمي بين الحياة والموت، أحدثك عن ضرورة الإقلاع عن الشعر، لأنه أصبح مثل التدخين صالحاً للقتل، ينفخ القلب مثل عبوة ناسفة ويودي إلى نهاية مؤلمة.

نعم يا صديقي، لكم منا ساعة واحدة للبكاء، ولنا بقية اليوم لنعيش كما لو كنا حياديين بالفطرة

هكذا هي الحرب، في أولها ينتفض العالم، ثم ينسحبون لتبقى الضحية وحدها في مكانها المحدد: أسفل ومنتصف الهدف

نكتفي بردها على الرسائل، فلا نسأل عن شيء آخر؛ هي لم تسقط بعد!

هل تعلم، نحن ننتظر ساعة سقوطها لنكتب عنها منشوراً على فيسبوك

أترانا انتظرناك طويلاً يا يوسف.. يا صديق الذئب؟!

هكذا كانت الحرب في مخيم اليرموك

وهكذا ستكون عندك

لا أعداء أو أصدقاء واضحين

أنت الواضح الوحيد: الهدف

وإذا نجوت سيباغتك أصدقاء قدامى، وأصدقاء جدد، وأناس يقولون إنكم أصدقاء، يلتقطون الصور، يشاركونها وأنتم جالسون، ينشرونها على الإنترنت، ثم يسألونك عما جرى، أنت تتحدث، وربما تبكي، وهم يتفقدون حجم التفاعل على الصورة كل عدة دقائق..

سيمتصونك كما العلق، ثم يُجرِّمون نجاتك، ثم يجردونك من كل شيء

نجاتك جريمة، شوكة في حلق العالم

هذا زمن القضايا الميتة والأبطال الافتراضيين

فلا تهرب من قدرك مجدداً يا بن الزمن القديم

أنتم تحت النار، ونحن محترقون بالماء

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :