سحر الحاج معتوق

سحر الحاج معتوق

  • عبدالرحمن جماعة

لم يكن الحاج معتوق (قطيع لسان)، بل كان فصيحاً إلى درجة تُمكنه من تطويع اللغة كما يُطوع السنفاز قطعة العجين، وكما يطوع الحداد المنجل فيجعله معقوفاً والسكين فيجعله مستقيماً، فالحاج معتوق يمتلك قدرة على الجدال تُمكنه من إسكات خصومه والخروج منتصراً في كل ميعاد!.

سُئل ذات (تنرفيزة) عن المسافة إلى بلد ما، كانوا يريدونه أن يرافقهم إليه وهو كاره؛ فقال: تبعد مسافة أربعين غراباً!.

والحقيقة أن استخدامه للغراب كوحدة لقياس المسافة ليس جديداً، فالليبيون يقولون: “وين حط الغراب ضناه” تعبيراً عن البعد، أما العرب قديماً فقالوا “غراب البين”، والبين هو الفراق والبعد!.

وفي أحد نزاعاته على أرض سأله أحدهم: أين حدود أرضك يا حاج معتوق؟ فقال: أرضي من هنا إلى يوم القيامة!.

للوهلة الأولى قد يُظن أنه ارتكب خطأين، الأول أنه خلط بين قياس المساحة وقياس الزمن، والثاني أنه قاس معلوم على مجهول!.

لكن الحاج معتوق كان أذكى وأفطن وأفصح من أن يقع في مثل هذين الخطأين، فأما قياسه للمسافة بالزمن فهذا لا إشكال فيه لأن قطع المسافة يحتاج إلى زمن، وهذا دارج عند العرب، فقد قالوا: مسافة يوم وليلة، ومسافة شهر!.

وأما قياسه للمعلوم بمجهول فهذا أيضاً لا إشكال فيه، وقد استعمله العرب لغرض التهويل فشبهوا بالغول والشيطان، وشبهوا الحَر بنار جهنم، والمرأة الجميلة بحوريات الجنة، ولم يروا شيئاً من ذلك، ومنه قوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ}!.

الحاج معتوق كان سريع البديهة سريع التنرفيزة، فحين تزوج زوجته الثانية، وكانت أصغر من بناته، سأله أحدهم: كم بينك وبينها ياحاج؟ فأجاب الحاج: صفر!.

وهنا أجاب على سؤال عن الزمن (العمر) بإجابة عن المسافة، لأنه أراد أن يقول للسائل إن ما يعنيني في هذا الزواج هو المسافة لا الزمن، وبما أنه خبير في الفيزياء فهو يعشق المسافة صفر… بجنون!.

الحاج معتوق كان نيوتن عصره، وهو تاجر عقارات من الطراز الأول، فعندما يشتري قطعة أرض كان يقيسها بالمتر، معللاً ذلك بكلمته المعتادة: “الحق حق يا ولد سيدي”، لكن الحق كان يغيب دائماً أثناء البيع، فعندما يبيع كان يقيس بخطواته، وكذلك عندما عمل في تجارة الأقمشة، كان يشتري من تجار الجملة بالمتر ويبيع بالذراع!.

الجميع يعرف ازدواجية المعايير لدى الحاج معتوق، لكنه كان يُقنعهم برأيه، فعلى سبيل المثال: عندما ينسى أحداً يقول للمنسي: “القوم تنسى اخيارها”، وعندما ينساه أحدهم يقول له: “المنسي ما فيه خير”!.

الحاج معتوق يُدرك أن اللغة ليست رياضيات بل هي مادة مطاطة مرنة يُمكنها التلاعب بالرياضيات وتطويع العقول وتحريك الجموع وخلق القناعات وتغيير الآراء.. بل وحتى إغواء النساء!.

الحاج معتوق ليس حالة نادرة، ولم يكن له السبق في تطويع اللغة، فاللغة هي سلاح الإعلامي، وقوة السياسي، ورأسمال التاجر، وهي مادة الشاعر والقاص والروائي والخطيب، وكل ناطق رسمي، وحتى الحكواتي في ليالي الشتاء!.

اللغة يُمكنها أن تحل محل الرياضيات والفيزياء والكيمياء، يُمكنها أن تغير التاريخ وتحدد الجغرافيا، يُمكنها أن تنصر الحق أو تُلبس الحق بالباطل، يُمكنها أن تُحول اليقين إلى شك، والشك إلى يقين… و”إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْراً”*!.

…………..

* حديث صحيح رواه البخاري.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :